من قلب الظلام.. إلى قلب النظام.. كابيلا يقتل كابيلا..!

TT

يقول ايان فيشر في صحيفة الـ«نيويورك تايمز» ان الكونجو تحديدا ودون سائر الدول الافريقية ظلت تشكل وعلى مدى قرن ونصف القرن الصورة العامة لافريقيا لدى جمهور الحضارة الغربية، وقد استلهمها اكثر من كاتب غربي في اعمال درامية من شاكلة جوزيف كونراد في رائعته قلب الظلام وفي اس نيبول في روايته عقدة في النهر.

ولكن تلك في ما يبدو هي خيالات الروائيين، وهي وان لامست جانبا من الحقيقة الا ان جوانبها الاخرى تظل بيد السياسيين وخيالهم ايضا. وقد اطلقوا على حرب الكونجو الاهلية بعد شهر من اندلاعها في اغسطس 1998 وصف «حرب افريقيا العالمية الاولى»، وان لم يحرم السياسيون انفسهم من فذلكة عبارات هي الى مزاج الروائيين اقرب، وآخرها قول بعضهم ان الكونجو هي البلد الوحيد الآن الذي يستمر فيه كثيرون في مجال الدماء والثروة. والاشارة هنا الى اقتتال ست دول افريقيا بجيويشها النظامية داخل اراضي الكونجو وفي قلب الظلام من اجل قلب النظام فيما ظل لوران كابيلا هو المايسترو والممسك بخيوط اللعبة واقلمة الصراع، يديرها في قلب الظلام وهو نائم الى ان جاءته رصاصتان في غرفة نومه استقرت اولاهما في الظهر، والثانية في ساقه اليمنى فصمت قلب الرجل دون ان توقف الفرقة عزفها او استثمارها في الدماء والاموال.

فمن هو هذا الكابيلا؟ ولماذا لم يتمكن من الاستمرار باللعبة؟ وما هي الرسائل التي حملها موته الى اصدقائه القليلين جدا واعدائه الكثيرين جدا.

ابن جيفارا.. لا يعرف الحساب! لوران كابيلا اسم لثائر مغمور تشرب بثقافة الحرب الباردة وامتلاء الاجواء الافريقية بها في حقبة الستينات، ذروة المد التحرري في القارة السمراء، وتعرف على الثائر الشيوعي المعروف ارنستو تشي جيفارا الذي اختار الكونجو موضعا لقدمه لتصدير الثورة منها ضد الامبريالية، وهناك روايات غير مؤكدة بانه قد صدم في كابيلا واعتبره مخادعا وكذوبا وزير نساء، وقال، اي جيفارا، ان كابيلا كان يقول له انه قادم من ارض المعارك في حين يعلم هو اي جيفارا انه قادم من ماخور.

ولكن السلطة جاءت لكابيلا على طبق من ذهب بعد ان يئس واكتفى بادارة صالة رقص امتلكها في شمال زائير، ولكنه ايضا سجن نفسه في ثقافة الماضي الماركسية وفي طرق ادارة الصراع بادوات تقليدية قادته الى تفضيل لغة البندقية على لغة الحوار، فارتدت عليه البندقية واودت بحياته لتفرح عواصم في الغرب واخرى في دول الجوار لرحيل رجل ظلت رواندا جارته الصغيرة والتي تساوي مساحة الكونجو نحو 90 ضعفا لها تصفه بالرجل الاخرق الذي يداوم كل صباح بتناول دجاجتين كاملتين في وجبة الافطار. ومن عجب انه استهون برواندا الصغيرة حليف الامس فحركت عليه باشعال الفوارق القبلية حربا اهلية دفعته للاستعانة بجيوش نظامية من انجولا وناميبيا وزيمبابوي اعتمادا على عقيدة الماركسية التي جمعته في ايام نضاله ضد موبوتو مع قادتها.

خنجر رواندا.. استثمار الدماء جمع خندق الصداقة والتحاف بين كابيلا وحكومة التوتسي في رواندا التي لا تشكل قبائل التوتسي سوى 15 في المائة من سكانها مقابل 85 في المائة لقبائل الهوتو منفذي مذابح 1994 التي راح ضحيتها نحو 800 الف من التوتسي. بدأت تلك الصداقة مع بدايات التذمر الشعبي ضد حكومة سلفه موبوتو فأوعز التوتسي في رواندا للتوتسي الكونجوليين في شمال وشرق الكونجو بالثورة ومؤازرة كابيلا لينتهي التحالف بدخول كابيلا قصر الرخام رئيسا للكونجو في 17 مايو 1997، ولكن توتسي رواندا ارادوا ان يقيضوا ثمن التحالف دماء او ثأرا من الهوتو الذين لجأوا للكونجو بعد المذابح باعداد هائلة، ولكن الماركسي كابيلا رفض تحسبا من ان تتجدد ثورة توتسي الكونجو عليه فاحتفظ بهم ودربهم فانقلب التحالف مع رواندا الى عداء وانضمت يوغندا بحسابات اخرى بينها صداقة كابيلا لنظام الحكم في السودان.

واتسعت رقعة الحرب لتجد فيها دول افريقية كثيرة مجال استثمار في تجارة الماس والذهب واليورانيوم والمطاط، فالتفت كابيلا للاسرة الدولية فلم يجد كبارها الى جانبه بعد ان افقدهم الشهية في التعاطف معه منذ ان حظر النشاط الحزبي والتعددي بعد اسبوع واحد من وصوله للحكم وبعد ان رفض التعاون مع الامم المتحدة وبمفوضية حقوق الانسان فيها بشأن تحقيقات تتعلق بتجاوزات عسكرية وانسانية لقواته النظامية ضد مدنيين ولاجئين.

خناجر الأمم المتحدة.. رد الصاع بالتسويف اول الرسائل التي يحملها رحيل كابيلا تتجه للامم المتحدة التي لم تتحمس لما يجري في الكونجو من حرب لامست الاقلمة ولم تعد مجرد حرب اهلية بين ثلاث حركات للتمرد وبين الشرعية القائمة، ويمكن قراءة تسويف الامم المتحدة من عدم تنفيذها لقرارها الصادر في 24 فبراير 2000 والذي نص على ارسال قوة قوامها أكثر من 5 آلاف ناشط لتنفيذ اتفاق لوساكا لوقف اطلاق النار، وعدم تنفيذها ايضا لقرار مجلس الامن في 16 يونيو 2000 والذي نص بسحب كل الدول الاجنبية لقواتها من الكونجو دون ان يحدد او يقطع القرار بمدى زمني ولا احد يدري لماذا؟

من شأن القرارين اذا ما كان لهما ان يدخلا حيز التنفيذ دفع الراحل كابيلا الى فتح صفحة للحوار في مكان حوار البنادق، والتجارة في حقل العلاقات الدولية في مكان تجارة الدماء والماس العتيقة، ولكن المدهش ان الرجل لم يطارد تنفيذ القرارين وكأنه وبمثل هذا الموقف يصبح قاتلا لنفسه.

الجبهة الداخلية.. غفلة ونكات بين اخطاء كابيلا الممتدة تجاهله لركام التحول الذي طرأ على الجبهة الداخلية بفعل سياساته التي جعلت ناتج بلاده الاجمالي يتراجع بنسبة 11 في المائة فيما ارتفع التضخم الى 530 في المائة، وبين تلك السياسات محاباته واحاطة نفسه بالاقارب والاصدقاء مما ادى لغياب المحاسبة واستشراء الفساد. وهناك استهانة بالمؤسسة العسكرية التي وجدت نفسها في مواقع كثيرة تتلقى التعليمات من ضباط زيمبابوي وناميبيا وانجولا وهي تشهد نهب موارد البلاد لقاء مطالبة تلك الدول بتسديد نفقات قوات عسكرية وصل عديدها الى نحو 25 الف ناشط. ولعل ظاهرة نهب موارد البلاد هي التي جعلت شعب الكونجو يتندر بالنكات السياسية على رئيسه وبينها انه يفضل اقتسام البلاد ذاتها على اقتسام السلطة او ديمقراطيتها.

على مثل تلك الخلفية اتجه كابيلا الى التصرف كبحار مخمور، فجمع كبار الجنرالات قبل اربعة ايام من مقتله وبعد اسبوع من اعفاءات مفاجئة طالت بعض الرتب الكبرى بحجة التغيير، ليعلن كابيلا في اجتماعه يوم السبت الماضي 13 يناير الجاري ان عليهم ان يعدوا العدة لما اطلق عليه «الهجوم النهائي» على قوات الجارتين رواندا ويوغندا الموجودتين داخل اراضيه، فتحسس الجنرالات فيما يبدو مسدساتهم وهجس لهم ان الرجل الرئيس يريد اغراقهم في بحور جديدة من الدماء فكانت مسرحية الحرس الخاص الذي اغتال كابيلا داخل غرفة نومه.

من قلب الظلام.. الى قلب النظام وعلى مثل تلك الخلفية ايضا لاح افق التفكير في قلب النظام او الانقلاب على كابيلا، ففشلت محاولتان خلال عام، لتجيء الثالثة متدثرة بمسرحية الحرس الخاص، وليجيء توريث ابنه في مكانه كما لو انها مسرحية اخرى قصيرة الفصول، لان كابيلا الابن والذي لم يبلغ الثلاثين لن يستطيع مجاراة كبار الجنرالات في دهائهم ومكرهم، ولان خبراته السياسية على صعيد الممارسة الدبلوماسية اقليميا ودوليا لن تؤهله الى فرض تلك الهيبة التي فرضتها بسطة الجسم التي احاطت بوالده. ولان كابيلا الابن واذا ما كان له ان يقدم على اصلاحات لم يقدم عليها والده فسيكون مصيره قريبا من جورباتوشف الذي حاول بالبروسترويكا معالجة جسد ينوء بالامراض وتزدحم ارضه بفوارق عرقية وطبقية يحس بها الـ50 مليون مواطن في جمهورية الكونجو. وشاهد القول اخيرا ان الكونجو، قلب الظلام، في حاجة الى فكر سياسي يعيد ترتيب نظامها ويفتح لغة جديدة للحوار بين فصائلها المتحاربة على ان يغطي ذلك الحوار تسوية شاملة لقضية الثروة والسلطة تلك الشوكة التي ظلت تؤرق الكونجو منذ استقلالها عام 1960، ومنذ اعلان جنرالها الراحل الانفصال باقليم كاتنجا الغني بالموارد نهاية بمسرحية اغتيال باتريس لوممبا اول رئيس للوزراء في 17 يناير 1961 نفس موعد رحيل كابيلا بعد اربعين عاما.

لقد رحل كابيلا اقرب ما يكون الى المنتحر، فالفضاءات امام رجل على مقربة من الفية جديدة كانت في اتساع مساحة بلاده البالغة اكثر من مليونين وربع المليون كيلومتر مربع، ولكنه ومثل طغاة كثر في افريقيا والعالم الثالث فضل المستحيل على الممكن فسقط في النهاية ليورث البلاد من بعده قابلية عالية للسقوط والتشرذم.