خطة شارون وخلفياتها الاستراتيجية

TT

تواجه خطة شارون لفك الارتباط مع الفلسطينيين، معارضة إسرائيلية داخلية واسعة، تشارك بها شخصيات تحتل مواقع بارزة. وإذا كانت الخلافات الإسرائيلية تنشأ عادة على قاعدة التطرف والرفض، فإن الخلافات الحالية تقوم في غالبيتها أخرى عنوانها: ما هو الأفضل؟ وما هو الأنسب؟ ويميل المخالفون بغالبيتهم إلى اعتبار خطة شارون ناقصة، وقد تجر على إسرائيل مشاكل غير محسوبة تهدد أمنها.

الاستراتيجيون هم أول المتفحصين لخطة شارون، وهم يلحظون فيها مدى التراجع عن مفاهيم استراتيجية أساسية تحدث تغييرا عميقا في السياسة الإسرائيلية. ويلحظون أكثر كيف أن شارون في كل تاريخه كان يعارض بشدة المفاهيم الاستراتيجية التي انتهى إليها في خطته الراهنة. إنهم يتحدثون عن انقلاب في فهمه الاستراتيجي يصل إلى حد الاعتراف بالفشل. ويقدم الكاتب الاسرائيلي (زئيف شيف) عرضا موجزا لهذا التغير الاستراتيجي موضحا فيه عودة شارون إلى تبني مفاهيم قادة إسرائيليين آخرين عمل كثيرا ضدهم. يتحدث أولا عن سقوط نظرية الحل العسكري للصراع العربي ـ الإسرائيلي فيقول «التغير الجوهري الناشئ عن خطة شارون بفك الارتباط، هو أن شارون توصل على ما يبدو إلى استنتاج بأنه ليس للنزاع العربي الإسرائيلي حل عسكري...... وعندما قال ذلك في الماضي رؤساء أركان مثل (دان شامرون) وجه لهم اليمين، وعلى رأسهم شارون، اتهامات شديدة. ومع انتخاب شارون كان الفلسطينيون هم الذين قالوا إن في رغبتهم أن يثبتوا بأن (السيد أمن) شارون لن ينجح».

التغير الاستراتيجي الثاني يتعلق بأهمية المستوطنات الأمنية، ويتبنى شارون الآن مفهوم اسحق رابين وحاييم بارليف اللذين قالا أن «ليس كل المستوطنات ذات أهمية أمنية»، وهو يقول ذلك عن مستوطنات قطاع غزة، وعن مستوطنات يريد إخلاءها في الضفة الغربية. ويقود مفهوم الأمن المتعلق بالمستوطنات إلى مفهوم الأمن الأوسع المتعلق بالأرض، فقد «تضعضع المفهوم الذي يقضي بأن أهمية الأرض فوق كل شيء..... وهكذا ضعضع شارون مفهوم الأمن القديم».

وبسبب تجاوز شارون مفاهيم الأمن القديمة، بدأ يبرز الرأي الذي لا يعارض التدخل الدولي كما هو في السابق، ويتبنى هذا الرأي (موشيه كابلينسكي) السكرتير العسكري السابق لشارون وقائد المنطقة الوسطى حاليا، وهو يقول «يجب السعي إلى تدخل محافل أجنبية مختلفة، وليس فقط أميركي، ولا يخشى من تدخل دولي « ليّن » في تنفيذ فك الارتباط.

وعلى قاعدة هذا التغير الجوهري في المفاهيم الاستراتيجية، نشأ خلاف بارز حول خطة شارون، إذ تقوم هذه الخطة على فك ارتباط من دون اتفاق مع الفلسطينيين، بينما يرى الجيش، ممثلا برئيس الأركان (موشي يعالون)، أن هذا يمثل خطرا كبيرا على إسرائيل، ولا بد من إنجاز فك الارتباط بالاتفاق مع الفلسطينيين. وقاعدة هذا المطلب أن الخروج من غزة من دون اتفاق يعني أن الفلسطينيين سيقومون بزيادة تهريب السلاح عبر سيناء إلى قطاع غزة، ثم سيواصلون القتال ضد الجيش الإسرائيلي وكذلك ضد المستوطنات الأخرى التي ستبقى، ولن يمنعهم من ذلك سوى اتفاق سياسي ينظم الأمور بعد الانسحاب. ويقدم يعالون لخطته هذه تصورا أشد قساوة من تصور شارون، إذ يدعو بعد الانسحاب (الكامل) إلى إغلاق الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة إغلاقا تاما، وفتح حدود غزة باتجاه مصر، بحيث يصبح على الفلسطيني الذي يريد زيارة الضفة الغربية أن يفعل ذلك بالسفر عبر مصر والأردن، وذلك من أجل تجنب قيام مقاومة فلسطينية جديدة.

وبما أن هذه نقطة لم تغب عن بال شارون، فقد حاول التغلب عليها عن طريق الحوار مع مصر، طالبا منها أن تتولى حراسة الحدود المصرية بشكل حازم لكي تمنع تهريب السلاح من سيناء إلى قطاع غزة، حتى أنه حاول إغراءها بإعادة قطاع غزة إليها، وأن تكون لها حرية الدخول إلى غزة للسيطرة عليها عسكريا وأمنيا. رفضت مصر العرض الإسرائيلي بشدة، مؤكدة على أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة وحدها عن هذا الأمر، ولكنها توقفت عند النقطة المتعلقة بها أي حراسة الحدود. وهنا أثارت مصر اتفاقية السلام بين البلدين التي تمنع تواجد قوات عسكرية في سيناء، وقالت إن تحقيق هذا المطلب يستدعي إحداث تغيير في «اتفاق السلام» بحيث تستطيع مصر ان تدفع بقوات عسكرية إلى سيناء يمكنها حراسة الحدود وحمايتها. وبهذا يكون شارون قد بدأ بنقطة صغيرة تتعلق بقطاع غزة، وإذا به يواجه مسألة كبيرة تتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي. وقد اثار هذا المطلب المصري البديهي ذعر الكثيرين في إسرائيل، وبخاصة المستوطنين، فكتب المنظر للاستيطان (يسرائيل هرئيل) قائلا «تعرقل التوقيع على اتفاق السلام مع مصر مرات عديدة بسبب طلب إسرائيل نزع السلاح من سيناء وإدخال قوات أميركية إليها. رفض المصريون ذلك.... إلا أن ضغوط الرئيس الأميركي في حينه (جيمي كارتر) هي التي أدت في نهاية المطاف إلى موافقة السادات على نزع سلاح سيناء. والآن ها هو آرييل شارون يأتينا بحماقة قدحها زند عقله، إذ وجه الدعوة لمصر بإعادة جيشها إلى القطاع».

على قاعدة هذه المسائل الأساسية التي أثارها مشروع شارون، بدأ التحالف الحكومي يواجه حالة تفكك قد تفضي به إلى الانهيار. ويتصرف شارون هنا وكأنه غير مبال بمصير الائتلاف الحكومي، وهو يعتبر أن نجاحه بإقناع الإدارة الأميركية بخطته، والحصول على دعم مباشر من الرئيس جورج بوش، سيعوضه عن اهتزاز التحالف الحكومي، وسيمكنه من تشكيل تحالف حاكم جديد يكون حزب العمل بزعامة شيمعون بيريس مكونا أساسيا له. ويلاحظ هنا أمران: الأول أن شارون لم يقم حتى الآن بالإعلان عن خطته التي أثارت كل هذا الضجيج. لقد أطلق العنوان فحسب (انسحاب من طرف واحد)، ثم حجب تفاصيل الخطة عن الحكومة وعن البرلمان، وهو يركز فقط على إرسال مدير مكتبه المحامي (دوف فايسغلاس) إلى واشنطن مرارا وتكرارا، لشرح الخطة ولإقناع أركان الإدارة بها. وحين تجتمع قيادة الجيش مثلا لاقتراح خطة تنفيذية لفك الارتباط، تفاجأ بأن هناك خطة أخرى أعدتها الحكومة وحملها فايسغلاس إلى واشنطن. ويعرف فايسغلاس بالطبع أهمية وضعه هذا، والذي يجعله أقوى من أي رئيس لأي جهاز أمني إسرائيلي، حتى أنه لا يتورع عن إطلاق النكات عنهم، وأغلبها نكات تمس بكفاءتهم في إدارة أجهزتهم.

ولكن المفاجأة جاءت إلى شارون من واشنطن بالذات، فهي منشغلة بالانتخابات ولا تريد الالتفات إلى أية خطة جديدة في الشرق الأوسط تثير أمامها مشاكل سسياسية، فما كان من كولن باول وزير الخارجية إلا أن قال «إن هذه الخطة تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الأجوبة»، وحين ارسل الأميركيون وفودهم إلى إسرائيل للاستفسار، وضعوا أمام شارون أسئلة كثيرة طالبين الإجابة عليها. إن واشنطن لا تريد اثارة خلاف مع إسرائيل في اجواء الانتخابات الرئاسية، ولذلك فهي تلجأ إلى أسلوب الأسئلة الذي يفهم منه طلب التأجيل. ولهذا أعلنت إسرائيل أخيرا أن تنفيذ خطة فك الارتباط يحتاج إلى عام ونصف، وهي بالضبط المدة المطلوبة لانتهاء الانتخابات الأميركية، مع فسحة من الوقت اللازم للرئيس الجديد لكي يضع خطط عمله.

يبقى أن نشير إلى أن خطة شارون ليست ضربا في الفراغ. إنها محاولة استقراء لخطة (الشرق الأوسط الكبير). لقد فهم شارون أن هذه الخطة تتجاوز حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، مركزة على مدخل أكبر لتعاون الدول يفضي بالنتيجة إلى حل اوتوماتيكي للصراع بعد أن يكون الجميع قد اندمجوا في إطار الاستراتيجية الأميركية الشاملة. وفهم شارون أن هذه الخطة التي عرضت على أنها خطة تنمية اقتصادية تنطوي على جانب أمني اساسي لم يتم الكشف عنه، وهو يعرف سلفا أن إسرائيل ستكون بندا أساسيا من بنود الخطة الأمنية الأميركية للسيطرة على الشرق الأوسط الكبير. وبناء على هذه القراءة سارع شارون لكي يقتنص الفرصة مبكرا. إن نقطة الخلاف بينه وبين واشنطن تتعلق بالتوقيت فقط، وهو ما يتوجب أن تدركه الدول العربية حتى تسارع إلى فرض خطتها الخاصة للتعامل مع هذه التغيرات.