أطفال يخوضون حرب الكبار انتحارا

TT

رسوم سحر منصور وأحمد عواد بسيطة جدا، لكنها أيضا تذكّر بالضريبة الرهيبة التي يفرضها الاحتلال والعنف الإسرائيليين على الأطفال الفلسطينيين.

يتميز رسم سحر بالحيوية وهي تستخدم ألوانا جريئة وبراقة مثل الوردي والبرتقالي. وبالتأكيد، تؤكد الاحجام الكبيرة للأشخاص وبساطتها، صغر سن سحر. فهي تبلغ الثامنة من عمرها. سمت لوحتها «في عينيّ غاز مسيِّل للدموع». حيث تظهر فيها صورة فتاة تغطي عينيها بعد سقوط قذيفة خاصة بالغاز المسيِّل للدموع ملقاة على الأرض بجانبها. أي عالم هذا الذي يجعل طفلة في الثامنة تعرف ما يعنيه الغاز المسيِّل للدموع؟ أي طفولة هذه؟

يظهر الطفلان الآخران في رسم سحر وقد رفعا أيديهما في الهواء كأنما يسلمان طفولتهما للفظائع التي يجبِرون على مشاهدتها.

أما أحمد الذي يبلغ من العمر الرابعة عشرة فيعكس رسمه، على الرغم من كونه أكثر تعقيدا من رسم سحر، تذكيرا آخر مثيرا للقلق للقدر الذي شاهده من مآس في عمره المبكر. عنوان لوحته هو «فحص هوية رجل عائد من السوق وتعصيب عيني شخص ثان وضرب ثالث». تترجم اللوحة العنوان تماما. هناك جنديان إسرائيليان يتفحصان هوية رجل فلسطيني وقد وجها بندقيتيهما صوبه، وهناك جنديان آخران يشدان عيني فلسطيني آخر، وجنديان آخران يقومان بضرب فلسطيني ثالث، في الوقت الذي تحاول امرأة فلسطينية ايقافهما، بينما تواصل امرأة أخرى البكاء. أشعر بالارتجاف للتفكير فيما شاهده أحمد ودفعه الى رسم لوحته.

هذان الرسمان معروضان هنا في نيويورك، كجزء من رسوم أطفال تم إنجازها في فترات بعض الحروب التي جرت في القرن العشرين. والكثير من الصور تم رسمها على يد أطفال خلال فترة الحرب الأهلية الإسبانية، حينما أرسِل 200 ألف من الأطفال إلى مستعمرات الأطفال من أجل سلامتهم. وهنا تم تشجيعهم للتعبير عن مشاعرهم. وأضيفت إلى هذه اللوحات 22 لوحة من مناطق حرب أخرى بما فيها لوحتا سحر وأحمد.

ومثلما يقول دليل المعرض، فإن اللوحات المضافة «تحمل تشابها مأساويا غير مألوف مع رسوم الأطفال الاسبان، حيث هي نتاج صدمة المنفى والانفصال عن أهاليهم، وهذه الرسوم لا تقدر بثمن لما تحمله من قيمة تاريخية باعتبارها وثائق مهمة، حيث يجسد الأطفال في رسوماتهم، تجاربهم مع الغارات الجوية والقسوة والتدمير وفقدان السكن».

يتفق كل الآباء والمدرسين والمختصين في الطب النفسي على ان هذه الشروط تنطبق تماما على الاطفال الفلسطينيين. عندما اقمت في القدس كمراسلة لوكالة رويترز للأنباء، وسافرت الى عدة مدن فلسطينية ومخيمات للاجئين الفلسطينيين، شاهدت الكثير من الفظائع التي اصابت الفلسطينيين كلهم بالصدمة والفزع، وأثرت على الاطفال بصورة اكبر. فمشاهدة رسومات سحر وأحمد تذكرني بهذه الاشياء.

بعد بضعة ايام من مشاهدة رسومهما قرأت عن عبد الله قرآن، وهو طفل فلسطيني عمره 11 عاما اعتقله جنود اسرائيليون بتهمة حمل قنبلة من دون علمه داخل حقيبته لأحد عناصر كتائب شهداء الاقصى.

اعي جيدا الجدل حول هذه القصة، وأدرك ان عبد الله وكتائب الاقصى نفيا ان تكون هناك أي قنبلة نقلت في حقيبة عبر نقطة تفتيش في نابلس. لكنني ادرك ايضا ان شيئا مثل هذا ربما يكون صحيحا. فهذه لم تكن المرة الاولى التي تستغل فيها جماعات فلسطينية الاطفال في توجيه ضربات الى اهداف اسرائيلية، اذ ان هذه المجموعات لجأت بدافع الإحباط الى انتهاج اساليب تجنيد أثارت غضب فلسطينيين آخرين، فسعيا لتجنب الاشتباه والوقوع في قبضة الجنود الاسرائيليين، لجأت هذه المجموعات الى تجنيد اطفال ونساء.

قبل يومين فقط من حادثة عبد الله، فجر صبيان عمر كل منهما 17 عاما نفسيهما في ميناء اشدود الاسرائيلي مما اسفر عن مقتل 10 اسرائيليين. وفي نهاية شهر فبراير الماضي اعرب الكثير من الفلسطينيين عن استياء واضح ازاء إرسال كتائب شهداء الاقصى والجهاد الاسلامي ثلاثة صبية من قرية طوباس في محاولة لشن هجوم مسلح على اسرائيليين هم جعفر دبابات، 12 سنة، وطارق ابو محسن، 13 سنة، وابراهيم سوافطة، 15 سنة. ويشير خطاب تركه الصبية الثلاثة الى ان طارق عضو في الجهاد الاسلامي، والآخرين عضوان في كتائب شهداء الاقصى. يقول الخطاب: «اذا متنا سنصبح شهداء، فلا تحزنوا من اجلنا بل وزعوا الحلوى لكل الناس».

وطبقا لوكالة اسوشيتدبريس، اعرب والدا طارق عن غضب بالغ وانتقدا تنظيم الجهاد الاسلامي على تجنيد الصبية لتنفيذ هجمات تؤدي على الارجح الى قتلهم.

وتقول اميرة ابو محسن، والدة طارق ان ابنها لا يعرف كتابة مثل هذه الخطابات ولم ينتم الى أي مجموعة، وتعتقد اميرة ان شخصا اكبر منها سنا هو الذي كتب له هذا الخطاب. اما والده، محمد ابو محسن، فقد قال انه ما كان يجب ان يرسل هؤلاء ابنه لتنفيذ مثل هذه المهام، مؤكدا انه اذا ثبت ان شخصا بعينه هو الذي ارسل ابنه لتنفيذ هذه المهمة، فإنه لا بد ان يتعرض للعقاب.

وقال حسين دبابات، والد جعفر، 12 سنة، انه لم يكن يتصور ان لابنه صلة بالسياسة، وقال باكيا وهو يتحدث الى مراسل اسوشيتدبريس انه فقد ابنه.

لدى سماعه اعتقال الصبية الثلاثة، اعرب الوزير الفلسطيني صائب عريقات عن غضبه واصفا ارسالهم لتنفيذ عملية مسلحة بأنه امر غير مقبول، وقال ان الاطفال الفلسطينيين يجب ان يكون لهم امل ومستقبل ولا ينبغي ان يصبحوا انتحاريين.

وأقول هنا لعريقات، ان القيادة الفلسطينية يجب ان تصبح قدوة وتضع كلماته موضع التنفيذ.

قبل ان يرد على القراء الغاضبين ليذكرونني بأن القوات الاسرائيلية قتلت هذا الاسبوع سبعة فلسطينيين وجرحت عشرات غيرهم في قطاع غزة، بمن في ذلك عدد من الاطفال، اود ان اوفر لهم عناء الوقت وأقول لهم انني اعرف ذلك. لكنني اكتب هذا الكلام لأنني اعرف جيدا مدى الدمار والقتل والترويع الذي سببته اسرائيل.

ولأنني اعرف كل ذلك، يجب ان اسأل: اذا اسفرت الهجمات الاسرائيلية عن مقتل وترويع اعداد لا تحصى من الاطفال الفلسطينيين، لماذا تجند المجموعات الفلسطينية الاطفال وتدفع بهم الى الموت؟ ألم ترتكب اسرائيل ما يكفي؟

أين اصوات العقل والمعارضة التي يجب ان تعمل لوقف هذه الدوامة.

رغم إننا لسنا في حاجة الى دراسة لتذكيرنا بما نعرفه مسبقا، فإن تقديرات الامم المتحدة تشير الى أن عدد الاطفال الذين يجبرون على حمل السلاح والقتال (حوالي 300 الف طفل، معظمهم في الحروب الاهلية في افريقيا) يعانون من اضطرابات نفسية وحالات صدمة اصبحت تشكل مشكلة اجتماعية كبيرة في هذه الدول عقب انتهاء الحرب.

اود ان احث الفلسطينيين على التفكير في المستقبل. ادرك ان الاطفال الفلسطينيين يعانون مسبقا من حالة الفزع والذعر التي يسببها الاحتلال الاسرائيلي، وأسأل مرة اخرى: ألم ترتكب اسرائيل ما يكفي؟ لماذا تدفع المجموعات الفلسطينية بالاطفال الى الموت؟

*كاتبة مصرية تعيش في نيويورك.