قرار قتل الشيخ ياسين اتخذ قبل ستة أشهر

TT

انه لامر مخيف جدا ذلك الاصرار الفج الذي تحركت ضمنه الديبلوماسية الاسرائيلية من لندن الى واشنطن الى بروكسل مقر الاتحاد الاوروبي، لتعطي «شرعية» خرق كل القوانين الدولية في عملية اغتيال الشيخ احمد ياسين، ولم يتأخر وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم من ابلاغنا وهو على مدخل وزارة الخارجية الاميركية من انه ابلغ نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني ووزير الخارجية كولن باول بـ«عدالة» العملية، ثم كمن يتولى الدفاع عن الموقف الاميركي، ردد أن واشنطن لم تبلغ بالعملية.

لقد حاولت وقصدت اسرائيل في نهاية شهر ايلول (سبتمبر) الماضي قتل الشيخ ياسين، لكنه أصيب يومها بجروح طفيفة.

ولا بد ان تكون واشنطن عرفت بالنوايا الاسرائيلية وعبرت عن موقفها. اضافة الى ذلك، يقول العارفون من الاسرائيليين ان قرار قتل الشيخ ياسين اتخذ منذ اكثر من ستة اشهر في اجتماع حكومي اسرائيلي كجزء من خطة تصفية قادة الانتفاضة الفلسطينية وان هذا القرار اعيد تثبيته الاسبوع الماضي ، واشرف على تنفيذ العملية رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون الذي يسوّق خطة الانسحاب الاحادي من غزة. وكنت أشرت في مقال لي الخميس الماضي الى ان القضاء على زعماء حماس والجهاد الاسلامي في غزة لا بد ان يستبق عملية الانسحاب حسب الخطة الاسرائيلية، وقال احد المراقبين الفلسطينيين في غزة بعد اغتيال الشيخ ياسين، ان العملية لا بد تدخل ضمن خطة الانسحاب التي وضعها شارون والتي تشمل ازالة كل المستوطنات الاسرائيلية من القطاع، وباغتياله للشيخ ياسين يغلق شارون ابواب المزايدة عليه في ولائه «لامن اسرائيل ومستقبلها». هذا اذا بقيت ردة الفعل محصورة بعملية الانسحاب الاسرائيلي من غزة ودفع الفلسطينيون الثمن المسبق لها.

وقعت العملية صباح اليوم الذي عقد فيه وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي مؤتمرهم لبحث كيفية مواجهة الارهاب، الذي تتوقع اوروبا حدوثه على اراضيها. وسيطر قتل الشيخ ياسين على ذلك المؤتمر، وكان ارييل شارون برر العملية بانها استمرار للحرب على الارهاب! وقد اظهرت احداث صباح الاثنين صعوبة ترجمة عبارات صاعقة مثل «الحرب ضد الارهاب» الى سياسات عملية على الارض. اذ بمجرد ان قالت اوروبا ان الوقت يتطلب اتخاذ مواقف حاسمة ضد الارهاب بعد عملية مدريد، «قفزت» اسرائيل لتتصرف على هذا الاساس وتقضي على الشيخ ياسين، تماما كما فعلت بعد عمليات 11 ايلول (سبتمبر) في اميركا. لهذا يقول مصدر بريطاني، ان على الاوروبيين تفسير ما يعنون بالموقف الحاسم ضد الارهاب، وبكلمات اخرى، لا قتل خارج عن قرار المحكمة، معالجة اسباب الارهاب مثل: الفقر والصراع العرقي وكذلك محاربة الارهابيين. ويعترف بأن هناك مساحات رمادية كثيرة، لكن في ما يخص هذه العملية بالذات فهناك اجماع عند الاوروبيين كمسؤولين وكرأي عام، على ان الفشل المستمر في حل الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، يضاعف احتمالات الارهاب ليس فقط في الشرق الاوسط بل ايضا في اوروبا!

وأبلغني سياسي بريطاني ان عملية قتل الشيخ ياسين كانت بمثابة وضع الزيت على النار، وان اوروبا متوترة وكانت في وضع افضل لو لم تحدث، ثم اضاف: «اتمنى ان يدرك الفلسطينيون ان خلافهم هو مع اسرائيل وليس مع اوروبا او الغرب». وكان جاك سترو وزير الخارجية البريطاني اول من ادان العملية، بحيث اختار كلمات دقيقة: «عمل غير قانوني وغير مبرر وغير عادل»، فظهر ان اوروبا تريد ان تبعد نفسها بوضوح عن العملية. واظهر استفتاء اجرته محطة سكاي التلفزيونية ان 76% من البريطانيين يشعرون بان العمليات الارهابية في اوروبا ستقع بعد العملية. وهناك فعلا احساس اوروبي بان اسرائيل تورطهم لانها محسوبة حليفة للغرب، كما انها تضع حلفاء الغرب من العرب في موقف دقيق لان المطلوب منهم ردود فعل، بمعنى ان العملية لم تكن ضربة لحماس فقط بل لعدة جهات غير متطرفة.

مما لا شك فيه ان الولايات المتحدة هي «الحد الفاصل» في ايجاد حل لهذا الصراع، وهذا ما يجعل اوروبا القلقة تشعر بالاحباط، وحسب المصدر البريطاني، يحاول الاوروبيون جاهدين التأثير على الاسرائيليين، انما لديهم نفوذ اكبر على الفلسطينيين بسبب الدعم المادي الذي يوفرونه للاراضي المحتلة، «ولا شك في ان القوة الخارجية التي لها تأثير على الشرق الاوسط هي الولايات المتحدة، انما لن تتوقف اوروبا عن التعبير عما تشعر به، وفي هذه المسألة بالذات تشعر بان القتل المستهدف، ليس فقط كونه لا يؤدي الى الهدف المطلوب انما غير شرعي». واشار محدثي الى البيان الذي صدر عن اجتماع وزراء الخارجية الاوروبيين مساء الاثنين الذي يشير بوضوح، الى ان اوروبا «تعتقد ان هذه العمليات تؤذي الحرب ضد الارهاب». لكن اوروبا لم تقترب من تعليق قانون التبادل التجاري مع اسرائيل، كأداة ادانة لهذه العمليات، ويبدو ان اوروبا تريد الابقاء على علاقاتها مستمرة مع الطرفين. وهناك اعتراف بان العلاقات الاوروبية مع شارون سيئة وقد تزداد سوءا، ولم يصدر منه انه تابع ما جرى في مؤتمر وزراء الخارجية الاوروبيين، لكن، حسب المصدر البريطاني، فان اوروبا تشعر بأنها اذا استمرت في ترداد موقفها، فيمكن لرسالتها ان تصل الى الشعب الاسرائيلي. من ناحية اخرى قال لي مصدر اميركي، ان شارون وضع الرئيس الاميركي في موقف صعب جدا، ومع هذا فعلى الرئيس ان يتصرف الآن، «ان لدى الاسرائيليين والفلسطينيين استراتيجية تفشل منذ ثمانين سنة وسوف تستمر بالفشل لثمانين سنة اخرى». واعتبر ما قام به شارون «عملا غبيا». لكنه أكد ان الولايات المتحدة لن تدين هذا العمل، «فهي اتخذت قرارا بعدم التعاطي مع القضية الفلسطينية ـ الاسرائيلية لهذا العام، مع العلم بأن شارون سيواصل سياسة الاغتيالات». ولما سألته عما اذا كانت هذه السياسة لن تغضب الرئيس الاميركي اجاب: «انا متأكد من انه منزعج جدا»، لكنه حذر من احتمال ان يعرض الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي العالم كله للخطر، «لان هذا الصراع يمكن احتواؤه اذا بقي تحت السيطرة، لكنه، كما يبدو يخرج اكثر واكثر من دائرة السيطرة، والمشكلة ان اوروبا، من دون الولايات المتحدة لا يمكنها السيطرة عليه. اننا اليوم في خطر كبير».

وكانت مستشارة الامن القومي الاميركي كوندوليسا رايس «تمنعت» عن انتقاد عملية القتل. وتبعها في ذلك الناطق باسم البيت الابيض سكوت ماكليلان عندما قال: ان من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها، مشيرا الى ان الشيخ ياسين كان شخصيا متورطا بالارهاب. لكن، بعد ظهر الاثنين وصفت ادارة بوش عملية الاغتيال بانها «مقلقة جدا» وقال الناطق باسم الخارجية ريتشارد باوتشر، ان نتائج هذا العمل ستزيد من التوتر القائم ويعرقل جهود السلام، وهذه امور تقلقنا. بعد ذلك، اتصل مكتب ماكليلان بالصحافيين ليبلغهم، بان مواقفه مطابقة تماما لمواقف باوتشر وانه بالتالي يعتبر عملية اغتيال الشيخ ياسين «مقلقة جدا».

وعما سيحدث بعد عملية الاغتيال، قال مصدر اميركي آخر، ان الاسرائيليين سيتجنبون ركوب الباصات في الشهرين المقبلين، لان حماس لا تزال تملك القدرة على العمليات. وكانت آخرها اشدود، والاسرائيليون اذا قرروا الانسحاب من غزة فسوف ينسحبون من منطلق قوة. لكنه لم يعتبر عملية اغتيال الشيخ ياسين تصعيدا «فحماس ستظل تفجر الباصات وغيرها». انما، ألا تحرج هذه العملية الرئيس الاميركي؟ يجيب محدثي «اذا انسحبت اسرائيل من غزة، وهي لم تنسحب من اي ارض فلسطينية محتلة سابقا، فالعملية ستكون مهمة، خصوصا اذا وافقت على الانسحاب من 50 الى 60 بالمائة من الضفة الغربية، فهذا يعني اكثر بكثير مما حققته اتفاقات أوسلو، وما زال هناك الكثير من الفلسطينيين الذين يدعمون قيام دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل». ويؤكد محدثي، ان الولايات المتحدة لن تقبل ابدا بمعادلة: «غزة اولا، غزة اخيرا». ويشير الى ان وفدا اميركيا كان في اسرائيل للاطلاع على خطة شارون وسوف يعود ثانية. ثم يضيف «ان الشيخ ياسين كان في النهاية سيرحل بشكل طبيعي، ويبقى على الفلسطينيين ان يقرروا مصيرهم من دونه».

ثم أكد محدثي «انه من الصعب علينا ان ندين اسرائيل والعملية».

على كل، ينوي رئيس الوزراء الاسرائيلي تقديم الخطة النهائية للانسحاب الى الرئيس بوش في الرابع عشر من نيسان (ابريل) المقبل. لكن، ابعاد الانسحاب من غزة والضفة ايضا، تعتمد على «الثمن» الذي ستأخذه اسرائيل من الاميركيين، وتنوي اسرائيل الطلب من اميركا الاعتراف بحقها في الابقاء على ثلاثة تجمعات للمستوطنين في الضفة. ويعتمد تأكيد موعد الرابع عشر من الشهر المقبل، على اتفاق المفاوضين الاميركيين والاسرائيليين بوضع الخطوط النهائية للانسحاب.

على كل، وفرت هذه العملية الفرصة للقاعدة لربط الصراع الفلسطيني بـ«صراعها» ضد الولايات المتحدة. ولاول مرة هددت حماس الولايات المتحدة ودعت كل مسلمي العالم للانتقام من هذه الجريمة. قد لا تنجح القاعدة في مسعاها، لان حماس الاسلامية متداخلة مع القومية الفلسطينية المتجذرة عند الفلسطينيين، ولان لحماس نفسها جذورا عميقة في القضية الفلسطينية، ولكن في وقت تسعى دول كثيرة للتخلص من اخطار القاعدة، هل كان على اسرائيل ان توفر لها مكانا عند الفلسطينيين نتيجة اغتيال الشيخ ياسين؟