في التواضع وعلوّه

TT

في السنوات الماضية قامت حرب سياسية طاحنة في لبنان بين الرئيسين سليم الحص ورفيق الحريري. وفي هذه الحرب خسر الحص مقعده النيابي في بيروت لحساب مرشحة الحريري، السيدة غنوة جلول. وحوصر الحص في ما يسمى «الشارع البيروتي» الذي انتقل الى الحريري القادم من صيدا على رأس «ماكينة» مالية وسياسية لم يعرفها لبنان في تاريخه. وانكفأ سليم الحص الى منزله في «عائشة بكار»، وهو شقة متواضعة في مبنى يقوم على مدخله كاراج لتصليح السيارات. ومن هناك عاد الى مهنته الاولى، الكتابة. ومن هناك ايضاً اعلن خروجه من العمل السياسي واستمراره في العمل الوطني: لن يقبل منصباً بعد اليوم ولن يخوض معركة نيابية، ولن يعاتب بيروت، التي سلخت منه مقعداً عمره اكثر من ربع قرن لكي تعطيه لسيدة حسناء لم تكن قد سمعت باسمها قبل ذلك في اي مكان.

ذلك هو، في اي حال، حال السياسة التي تركها سليم الحص. ولست ادري متى كان فيها، بالمعنى اللبناني، او متى كان جزءاً منها. ومتى كانت قواعده من قواعدها او همومه من همومها. بل كنت دائماً اعجب كيف يفوز الحص في الانتخابات على الطريقة اللبنانية، وكيف ولماذا يطلب منه رئاسة الحكومة. ومَن من رؤساء الجمهورية يطيق الى جانبه رجلاً في مثل هذه الطباع وهذه الخصال. ان المؤسسة السياسية اللبنانية كلها ترى في نموذجه اعاقة لها وعثرة في وجه التقاليد الموروثة. فهذا رجل يطرح نفسه على انه غاندي، فيحاولون اغتياله، ويطرح نفسه على انه معارض للاعدام، وانه السيد نقاء، لا يرشي ولا يرتشي ولا يصفح عن الرشوة في بلد تكاد تصبح الرشوة فيه هي القانون، لولا بقية ضمير هنا وبقية انفة هناك. واقول بقية.

بعد انسحابه من السياسة ـ متأخراً ثلاثين عاماً ـ انصرف سليم الحص الى كتابة مقال اسبوعي في «النهار» يعلق فيه على مسيرة الحكومة. وفي معظم تلك المقالات كان هناك نقد لاداء الرئيس رفيق الحريري واسلوبه في الادارة. وكان فيه دفاع عن مرحلته هو كرئيس للحكومة. كما كانت فيها مرارة دائمة بسبب ما تعرَّض له من حملات من بعض نواب الحريري، الذين ظنوا ان احتماءهم بظله يمنحهم تفويض التعرض لظل الحص الطويل. اما المرارة الكبرى التي اخفاها دائماً، فهي ان بيروت رضخت للاغراءات فاستبدلته بسيدة لا تزال تحاول تخطي عتبة المجهول لكي تعرّف بنفسها الى مدينتها.

الثلثاء البارح، كان مقال سليم الحص فصلاً آخر من تأملاته الروحية والفكرية. وفيه يكرر ما تعرض له من ضرر بسبب الحصار الذي ضرب حوله، لكنه يقول انه نسي الامر كله وان افضل ما يكرم به الانسان نفسه هو الصفح والتسامح. قرأ الرئيس الحريري المقال واتصل بكاتبه متأثراً، ثم قام بزيارته ذلك الصباح. واعتقد انه لا يرد على النبل الا بنبل آخر. لكنني كنت اتمنى، بدل الزيارة، لو ان الرئيس الحريري وجه كتاباً مفتوحاً الى الدكتور الحص على صفحات «النهار» وخاطبه فيه بمثل ما خاطب، ومن خلاله خاطب اللبنانيين، وخصوصاً اهل بيروت، الذين ترك لهم سليم الحص غنوة جلول وذهب يترشح في جمهورية افلاطون.