مأزق الحرب على الإرهاب

TT

لم تجد مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي، كونداليزا رايس، عبارة تصف بها جريمة اغتيال زعيم حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، سوى القول بأنها مقبولة ومبررة في سياق «الحرب ضد الإرهاب».

وبطبيعة الأمر، لا تختلف هذه العبارة في شيء عن المقولات التي استخدمتها الحكومة الأميركية التي نجحت في مسعاها لوضع حربها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني على أجندة المواجهة الكبرى ضد الإرهاب التي تشكل محور السياسة الخارجية الأميركية الجديدة.

وعلى الرغم من الأصوات الأوروبية الخافتة المنددة بعملية الاغتيال بصفتها انتهاكًا للقانون الدولي، إلاّ أن العقدة في حقيقة الأمر ليست في هذه الجزئية القانونية (على أهميتها)، وإنما تتصل بما هو أعمق وأكثر جوهرية، أي بالأبعاد القيمية للمشروعية.

فمن الواضح أن الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الإرهاب تقوم على فكرة محورية هي أولوية الحق من حيث هو قيمة مطلقة، على القانون من حيث هو تشريع يصون هذا الحق ويكفله.

من هذا المنطلق، يتم تبرير انتهاك القانون الدولي في فلسفته ومرتكزاته الأساسية، خصوصًا في مبدأيه الرئيسين: إخضاع العنف للمعيار التشريعي، وتأكيد سيادة الدول في مجالها الداخلي، باعتبار إما عجز المواثيق الدولية عن تحقيق أهدافها أو بروز تحديات ومخاطر جديدة لم تحسب لها هذه المواثيق حسابها.

فالحقيقة التي تصدر عنها استراتيجية محاربة الإرهاب في انتهاكها للقوانين، التي تنظم العلاقات الدولية، هي إذن خلفية أخلاقية قيمية، منطلقها الانسجام مع روح التشريعات بالخروج على أحكامها وإبطال نصوصها.

ومن هنا يتم تبرير الحروب الاستباقية ضد الدول المتهمة بإنتاج أسلحة الدمار الشامل، أو بممارسة الاستبداد ضد مواطنيها، كما يتم تبرير احتجاز «الإرهابيين» في حظائر معزولة من دون محاكمة قضائية، وهو المنطق ذاته الذي يسوغ الوقوف مع سلطة الاحتلال ضد الشعب المستعمر، بحجة اعتماد أسلوب الإرهاب في المقاومة، وعزل وإقالة الحكومة الشرعية المنتخبة (السلطة الوطنية الفلسطينية)، واغتيال القيادات والرموز الدينية والوطنية لضلوعها في عمليات تنعت بالإرهاب.

وليس من همنا تحليل وتقويم الاستراتيجية الأميركية لمواجهة الإرهاب التي وقفنا عندها في مناسبات سابقة، وإنما حسبنا الإشارة إلى المأزق الذي تواجهه راهناً، سواء على المستوى النظري أو الإجرائي العملي. فلم نتمكن لا من توليد عقيدة استراتيجية جديدة للدولة العظمى (على غرار العقيدة الولوسونية أو عقيدة الردع والاحتواء التي أظهرت فاعليتها في الحرب الباردة)، بل لا تزال تمثل خياراً إيديولوجياً راديكالياً معزولاً، حتى ولو تبنته مراكز القوى الأساسية في إدارة الرئيس بوش، كما أنها لم تفض إلى مكاسب عينية حقيقية، بل أدت على الأصح إلى مضاعفة وتجذير دينامية الإرهاب والتطرف.

وتكفي مطالعة تحليلات وتعليقات الكتتّاب والساسة الأميركان، بمناسبة الذكرى الأولى للحرب على العراق، التي تزامنت مع تفجيرات مدريد، لإدراك حجم الإحباط الواسع السائد راهناً في الشارع الأميركي إزاء هذه الحرب، التي دفع المواطن الأميركي ثمنها باهظاً في موارده وحريته وحقوقه.

ولقد أدرك هذه الحقيقة مهندس استراتيجية الحرب على الإرهاب ريتشارد بيرل، الذي أصدر أخيرا بالاشتراك مع دافيد فروم كتاباً سجالياً حاداً بعنوان: «النهاية نحو الشر: كيف ننتصر في الحرب على الإرهاب»An end to evil ، ذهبا فيه إلى الإقرار إن المواجهة وصلت إلى «نقطة التأزم». فعلى الرغم من انتصار الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق وتفكيكها لبنية طالبان التحية، إلاّ أن «الأسوأ لا يزال في الأفق»، بينما أنهكت القيادة السياسية والنخب الثقافية والإعلامية الأميركية وشغلتها الانتخابات المقبلة ففقدت أعصابها وتراجعت اندفاعتها التعبوية. ويرى المؤلفان إن الخطر الأكبر الذي يتهدد حاليًا الولايات المتحدة في مواجهتها للإرهاب، هو كونها بدأت تخسر حرب الأفكار، إذ لم تتمكن من النجاح في تسويق مشاريعها الإصلاحية وتصوراتها الجديدة للنظام الدولي.من هذا المنظور يعيد المؤلفان تأكيد الأطروحة الشائعة لدى التيار المحافظ الجديد، وهي اعتبار الأصولية الإسلامية خطرًا استراتيجيًا يوازي الشيوعية التي يقاسمها شعار العدالة الثورية، والنازية التي يقاسمها عقدة الاعتزاز بالذات، وإن كانا يتوسعان في استخدام صفة الأصولية التي يطلقانها على البلدان الإسلامية المحافظة.

ولا تحمل التوصيات والمقترحات التي يقدمها المؤلفان لتفعيل ودفع استراتيجية الحرب على الإرهاب جديدا عن التوجهات المألوفة لدى المحافظين الجدد، من قبيل نشر الديمقراطية وفرض الإصلاحات السياسية والثقافية على البلدان الإسلامية، وتغيير الأنظمة المناوئة بالقوة كما هو شأن أنظمة إيران وسورية.

وكنا قد بسطنا القول في مناسبة سابقة في هذه الأطروحة السريالية التي تلاقى آذانًا صاغية في مركز القرار الأميركي، وما يهمنا في هذا الحيز هو التنبيه إلى كونها تعكس أزمة عميقة في الرؤية الإستراتيجية أكثر مما تكشف عن خيارات أو رؤى مستقبلية.

فبغض النظر عما تقوم عليه من نكوص خطير نحو مفهوم الشرعية العقدية والأخلاقية للحرب التي كانت سائدة خلال العصور الوسيطة (الحروب الدينية)، فإنها تؤول إلى انتهاك مبدئها القيمي ذاته، بذريعة النجاعة العملية التي هي مقوم كل حرب، ومن هنا ندرك خطورة تمديد النموذج الحربي إلى المعترك السياسي أو الحضاري اللذين لهما أدواتهما وآلياتهما الخاصة.

فإذا كانت ذريعة الوقوف ضد حق المقاومة المسلحة في فلسطين، هي لجوء بعض حركات المقاومة لأساليب تنعت بالإرهابية، فإن مصادرة هذا الحق باختزاله في العمل الإرهابي، هي في حقيقة الأمر ممارسة للإرهاب في أعتى صوره (استعمار أرض الغير بالقوة ومنع السكان المحتلين من الدفاع عن أنفسهم).

وكذلك الشأن بالنسبة للضربات الاستباقية التي تقوم على مفارقة الوقاية من الخطر قبل تشكله، مما يعني عمليًا محاكمة النوايا، ومصادرة حق الأمم والدول في بناء قوتها الدفاعية الخاصة بحجة إنها يمكن أن تعرض أمن القوة العظمى للخطر، وفي الحالتين نلمس رفضا للاعتراف بالآخر وتنكراً لحقوقه الأساسية.

إن النتيجة العينية التي تفضي إليها هذه المقاربة، هي بالضرورة تأجيج الإرهاب والتطرف، لغياب المرجعية القيمية التي تضبط حركة العنف وتقننه، باعتبار ان هذه المرجعية يجب أن تتأسس على قواعد تشريعية يجري التوافق عليها بدلا من ادعاء حق الاستناد إلى القيمة الخلقية المطلقة (التي لا مجال لتحصيل الاجماع على مضمونها).