اغتيال شيخ حماس.. نحو تفسير آخر لقرار فارق..!

TT

للوهلة الأولى لا يسع المرء إلا الانحياز الى معظم التحليلات العاجلة التي ترى أن أضرار عملية اغتيال زعيم حماس أحمد ياسين، بالنسبة لأريل شارون وحكومته وإسرائيل الدولة، أكبر من منافعها بكثير، وذلك بحسبها خطوة لا تبدو موفقة من حيث التوقيت وأسلوب التنفيذ ومكانه، ولا من حيث توقع الأصداء وردود الفعل في كل الدوائر المعنية من دون استثناء قطاع واسع داخل إسرائيل ذاتها.

فإذا كان الاغتيال توخى وقوع حماس في حيز مراجعة نهجها في المقاومة أو الاعتكاف واستشعار العجز أو الانكشاف القيادي واللغط الداخلي أو حتى الانشطار والتشظي، فالمؤكد هو خطل الحسابات الإسرائيلية من هذه الزاوية. إذ لا نعرف أن حركة مقاومة في أية تجربة كفاحية تحررية قد وقعت في هذه المحظورات المهلكة لمجرد غياب الزعيم المؤسس، لاسيما إن كانت هذه الحركة قد استوت على سوقها تنظيميا وقويت مؤسسيا واكتسبت لذاتها مساحة واسعة على الصعيد الشعبي الداخلي ومكانة مرموقة في محيطها الإقليمي. ويصبح هذا التقدير بصورة أقوى فيما يخص الحركات ذات البعد العقيدي (الديني) الصارم كالذي تأخذ به وتستهدي حركة حماس.

نفهم جيدا أن الشيخ ياسين تمتع بحضور وقدرة استثنائية على السيطرة والتحكم والتوجيه بين يدي حماس. وكان لهذه الخصائص موجباتها الشخصية في طبيعة هذا الرجل ونمط حياته وسيرته النضالية، لكنها خصائص تعود أيضا الى موجبات موضوعية مبثوثة في تراث الإخوان المسلمين الذي تربى عليه ياسين. ولابد أن شركاءه وأنصاره وأركان حركته وقيادته قد غرفوا من المصدر ذاته ولن يعز عليهم تصعيد بديل منه يستلهم الميراث ذاته! يتصل بهذه الناحية، أن نشوء حماس ثم تجذرها في الواقع الفلسطيني قام على أسس اجتماعية ثقافية راسخة تتجاوز قضية حياة ياسين أو استشهاده، للتيار الثوري الإسلامي قواعد ضاربة في التربة الفلسطينية. قواعد يعد ياسين وصحبه نتاجا لها وليسوا منشئين من عدم، ولنا أن نتسائل هنا أين هو القطر العربي الذي يخلو من مثل هذا التيار ورموزه حتى تخلو منه الساحة الفلسطينية؟ ثم أين هي الحركة الاسلامية المنظمة في أي قطر عربي التي أفلت بغياب زعيمها وكادرها القيادي كله، حتى يكون استشهاد ياسين ايذانا بأفول حماس؟!

لا نعتقد في كل حال أن حماس ستركن الى الدعة أو أنها ستخوض في محذور جدل التوارث القيادي ومماحكات الزعامة على النحو الذي اشتهرت به قوى فلسطينية اخرى في حياة زعمائها وليس غيابهم فقط. القيادة في حماس على ما تقول الخبرة تمثل عبئا ثقيلا لا يرجى من ورائها أي غنيمة ظاهرة، وسوف يحسب للشيخ ياسين انه اجتهد في الزهد والابتعاد عن حطام الدنيا، صعودا الى مأثرة الشهادة في سبيل قضية عادلة بالمعنيين الديني والدنيوي. وهذه تركة لا يتقدم لحملها إلا ذوو البأس الشديد، ولا تدع مجالا للتزاحم والمشاكسة أو الشجار والتنازع الداخلي.

وسوف يحول دون هذا التزاحم المفضي الى الانقسام في حماس، انها حركة ممأسسة بشكل ممتاز، وأن تقاليدها القيادية لم تعرف حالات صارخة من الخلاف، وأن غياب شيخها الجليل كان متوقعا في أية لحظة، وهو الذي كان يعاني من أحوال صحية ضاغطة، بخلاف التربص الاسرائيلي بحياته على مدار الساعة، ما يعني أن خلافته كانت موضوعا على رأس أجندتها بل ربما كانت محسومة.

هذا ينقلنا الى احتمال آخر، هو أن يكون قصد شارون من خطوة الاغتيال اخراج حماس من طور العقلانية والانطلاق الى ردود فعل انتقامية غير خاضعة للتروي والحسابات الباردة التي وسمت سلوكها مطولا. وربما طمح شارون الى سوق حماس الى أفعال تعرضها ليس فقط لنيران اسرائيل وإنما تجعلها عرضة ايضا للعداء المفتوح من جانب السلطة الفلسطينية، وربما من المحيطين الاقليمي والدولي. وقد لمح الى ذلك بعض المسؤولين الاسرائيليين حين تذرعوا بأن دولتهم تخلصت من «بن لادن فلسطين»! غير أن حماس أثبتت عصيانها على الوقوع في محذور، وآيات ذلك عدم انجرارها الى الصدام الدموي بأي حال مع السلطة الفلسطينية، وتحديدها لساحة الصراع في نطاق فلسطين التاريخية كحد اقصى والارض المحتلة عام 1967 كحد ادنى. وحذرها من الوقوع في حبائل خطاب القاعدة ونظائرها وبن لادن واشباعه، ويبدو انها نجحت في تجنب وصمة الإرهاب، الى الحد الذي اكره الاوروبيين انفسهم على إدانة اغتيال شيخها، ولا نحسب أن اسرائيل ولا حماس سيغفلان عن مغزى هذا الموقف.

ومن دلائل الرغبة الاسرائيلية في صرف حماس عن براجماتيتها وعقلانيتها وحرفها الى التشوش السلوكي، استهداف الشيخ ياسين ومن قبله القيادي اسماعيل أبو شنب، وهما الى جانب القيادات العلنية السياسية من المصنفين في دائرة الاعتدال لا التشدد داخل الحركة، ويجوز التوقع هنا بأن هذا الاستهداف إنما يرمي كذلك الى دفع الحركة باتجاه تصعيد من هم اكثر تشددا وروجمائية ايديولوجية، بما يؤجج الصراع الداخلي الفلسطيني ويفسد مسار الحوار بين حماس وسلطة عرفات، لكن استشهاد الشيخ ياسين بحيثياته الدرامية وما تلاه من أصداء فلسطينيا، لا يوجد بمرور هذا القصد، تقول هذه الاصداء إن احتمال الحوار الفلسطيني الفلسطيني على أرضية المقاومة وخطاب رفض الاستسلام أو الاقتتال الاهلي، اكبر بكثير من الاحتمالات المعاكسة، ويلفت النظر ان فتح وكتائب الاقصى، حزب السلطة لعرفات، توعدا اسرائيل بالانتقام بما لا يتميز عن موقف حماس. وباستشهاده حقق الشيخ ياسين مرادات وحدوية وطنية فلسطينية بين كل الوان الطيف السياسي والمسلح، عجز عن تحقيقها في حياته. لا ندري كيف اجرى شارون وبطانته المافيوية حساباتهم بشأن التداعيات العربية والاسلامية لفعلتهم المشينة، لكن المؤكد راهنا أن هذه الفعلة أحدثت صحوة شعبية غاضبة، جددت الشعور بالوجيعة الفلسطينية بعد اعتكاف امتد منذ بدايات انتفاضة الاقصى، صحوة لم يتمكن حتى اكثر القيادات الرسمية طأطأة للسياستين الاسرائيلية والامريكية من تجاهلها، ويقينا سيكون لهذا المعطى تأثيراته في الأجل المنظور، كمنح حماس مزيدا من الشرعية النضالية والزخم الشعبي وتعطيل خطاب التطبيع مع اسرائيل وزيادة العداء للسياسة الامريكية التي انفردت بعدم ادانة الاغتيال، وتشديد التنكير على ما يسمى بقوى التسوية والسلام فلسطينيا عربيا واسلاميا، وصولا الى مضاعفة جرعة الحنق من حديث الشرق الاوسط الكبير!

السؤال الذي يلح وقد يظل محلقا حتى إشعار آخر يتعلق بمدى وعي شارون ومخططي عملية الاغتيال بهذه الاضرار؟

نطرح السؤال وفي قناعتنا ضرورة عملية افتراض السذاجة في العدو، أي عدو؟ من حسن الفطن أن نفعل ذلك وان نتعامل مع شارون والذين معه بحسبهم دبروا فعلتهم وتأهبوا لتداعيات الربح والخسارة الناجمة عنها بشكل معمق فإن اخذنا بهذه المنهجية، تحتم علينا ـ وعلى المعنيين جميعا ـ معالجة القضية على نحو مختلف كثيرا أو قليلا عما عولجت به حتى الآن، وفي هذا السياق، ينبغي تحري العامل الذي جعل شارون يرجح ارتكاب جريمته رغم علمه بالاضرار المترتبة عليها. وبذلك نكون قد اضفنا جديدا الى معرفتنا المتراكمة بالكيفية الي تتخذ بها القرارات الفارقة في الكيان الصهيوني.

* كاتب فلسطيني ـ القاهرة