استشهاد أحمد ياسين : شارون يفتح باب جهنم

TT

الجريمة البشعة التي اقترفتها حكومة شارون، ومجلس وزرائه الأمني المصغر، باغتيال الشيخ المقعد أحمد اسماعيل ياسين، وباستخدام أرقى تكنولوجيا السلاح والعتاد الأمريكي، وصمة عار على جبين قادة هولوكست العنصرية الفاشية الصهيونية، التي لم تثنها حدود الاخلاق الانسانية من التطاول الدموي على الجسد النحيل لحالة سياسية، وليست عسكرية، تحمل صفة تعبيرية ورمزية في صفوف الشعب الفلسطيني.

فالجريمة أتت بعد أيام قليلة من عملية ميناء أسدود النوعية، التي نفذتها مجموعة مشتركة من كتائب القسام والأقصى، حيث هدد شارون على اثرها قائلاً:« ان الصيد الثمين ينتظرنا في مواجهة من دخل أرض المحرمات في ميناء أسدود»، وتذكرنا بالجريمة المشابهة التي اقترفتها حكومة اسحق رابين باغتيال الشهيد خليل الوزير بعد العملية البطولية التي نفذتها حركة فتح قرب مفاعل ديمونا عام 1988، وحينها أطلق رابين تهديداً مشابهاً لما أطلقه شارون بعد عملية ميناء أسدود.

وكما خليل الوزير بعد عملية ديمونا، التي نفذتها مجموعة من قوات الـ 17 التابعة لحركة فتح، نقول: باستشهاد القائد الشيخ أحمد اسماعيل ياسين ومرافقيه الشهيدين، تكون حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والشعب الفلسطيني قد خسرا رمزاً وطنياً جاداً ومحبوباً، رمزاً نظيفاً، صافي السريرة، حفر أزميل الزمن أخاديد الوقارعلى وجنتيه، حيث تعلو وتطفح عليها وسمات الحياء والخلق الرفيع باستمرار. فالشهيد الشيخ أحمد ياسين، وبشهادة من عرفه، كان جزءاً من الوطنية الفلسطينية قبل أن يكون حماسياً، وكان وحدوياً قبل أن يكون صاحب انتماء وانحياز أيديولوجي / سياسي ، تشهد له على هذا بصماته الوحدوية التي تركها على امتداد الأعوام الماضية بين فصائل قوى المقاومة والحركة الوطنية والسلطة الفلسطينية، ويشهد له دوره في الشارع وبين الناس في سياق الانتفاضة ومعركة العودة والاستقلال الوطني التي يخوضها الشعب الفلسطيني منذ عقود متتالية.

وباستشهاد أحمد ياسين، تكون قيادة حركة حماس قد ودعت خمسة من قياداتها التاريخية المؤسسة: الشهداء صلاح شحادة، اسماعيل أبو شنب، جمال سليم، جمال منصور، الدكتور ابراهيم مقادمة. كما كانت حركة فتح قد ودعت ثلاثة أرباع عضوية لجنتها المركزية المؤسسة لها، الشهداء: عبد الفتاح حمود، أبوعلي اياد، ممدوح صيدم، كمال عدوان، محمد يوسف النجار، ماجد أبوشرار، سعد صايل، نمر صالح، خليل الوزير، صلاح خلف، هايل عبد الحميد …

الشهيد أحمد ياسين، الخطيب المفوه في قطاع غزة، حفر بالكد والتعب المضني وبالأظافر مسيرته العلمية انطلاقاً من مدارس وكالة الأونروا، فأمسى حاملآً لشهادة الدكتوراه في علوم الشريعة الاسلامية واللغة العربية، ترك ألقاب أكاديمية الجامعة الاسلامية في غزة، واتجه نحو الهم الوطني الذي تعاظم داخل ثنايا مكونات جسده وشخصيته، وداخل سيكولوجيا اللاجئ الفلسطيني القادم قسراً الى الجزء الآخر من أرض الوطن في قطاع غزة من بلدة جورة عسقلان قضاء المجدل عام 1948 جنوب مدينة يافا من الساحل الفلسطيني إلى أرض مخيم جباليا ـ درة الانتفاضة وشعلة المقاومة، وسط قطاع غزة ، ومن ثم العيش والحياة في قلب الهم المسكون داخل نفوس الفلسطينيين من لاجئين وغزازوة، والى ميدان الولادة العملاقة لأجيال اللجوء والشتات وهي تحمل البيارق دماً وباروداً وقرطاساً ومداداً من العطاء على طريق العودة.

هذا الإطراء لذكرى الشهيد الشيخ أحمد ياسين ومرافقيه، ليس من حقه فقط علينا نحن الأحياء الذين تربينا وعشنا في كنف الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بل هو الواجب بعينه في تأبين فرد من رموز وشموس النضال والكفاح التحرري العادل للشعب الفلسطيني، خصوصاً أن الشهيد اللاجئ إلى قطاع غزة، رحل وهو على أرض فلسطين صابراً مثابراً كمن يقبض على الجمر الأحمر المتقد في مواجهة عدو لا يرحم ولا يشفع ولا ينتظم لأية ضوابط أو أخلاق، وفي زمن الانتكاسات والتراجعات العربية خصوصاً بعد سقوط بغداد، وهي التراجعات التي لم تعط أحد منّا نحن العرب والفلسطينيين على وجه الخصوص سوى الويلات وانفلات وحش القمع الدموي الصهيوني. وبالنتيجة، فالخسارة ليست فئوية أو حزبية تخص طرفا أو فصيلا فلسطينيا دون غيره، فالخسارة للوطنية الفلسطينية، في وقت يحتاج فيه الفلسطينيون الى فعل وجهد المزيد من القيادات العاقلة الحكيمة، التي تستطيع وحدها أن تجنب الشعب الفلسطيني الجنوح تجاه مزالق الحروب والفتن الداخلية التي تدفع نحوها حكومة شارون، والاشتراطات الأمنية الثقيلة التي تحملها خطة خارطة «اللا طريق» الأمريكية وتطالب الطرف الفلسطيني بانجازها ولو فوق جراح بعضه البعض.

هذا في الجانب المتعلق بدور وذكرى الشهيد أحمد ياسين، أما في الجانب السياسي فان عملية الاغتيال الإسرائيلية تجاوزت حدود كل المحرمات والموانع وأصابت صميم القيادات السياسية الأولى للشعب الفلسطيني بعد أن اكتفت في مراحل سابقة بتسليط معظم عمليات الاغتيالات نحو الكوادر العسكرية ونشطاء الانتفاضة، ولم تتجاوز هذا الحد إلا في الحالات المعروفة التي سقط فيها الشهيدان الجمالان: جمال منصور وجمال سليم ، والشهيد أبو علي مصطفى قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ومن بعده الشهيد الدكتور إبراهيم المقادمة. وهذا التحول في التصعيد الإسرائيلي يؤشر الى السقف المفتوح الذي تعمل بموجبه حكومة شارون وطاقمه الأمني والعسكري دون الالتفات إلى أي من المناشدات الدولية لوقف شرارات دورة العنف. ولم يكن من الممكن لهذا السقف من السياسات الشارونية الدموية أن يكون مفتوحاً لولا الصمت والسكوت الأمريكي المطبق في ظل بوادر انفلات الوضع في العراق والاستدارة الأمريكية لتطويق ما يجري على أرض الرافدين.

ان عملية اغتيال الشهيد أحمد ياسين، وانطلاق أصوات الوعيد والترهيب التي تطلقها جنازير دبابات قوات الاحتلال وحوامات الأباتشي، لن يقودا سوى إلى مزيد من التدهور، واندلاع دوامة العنف من جديد: عنف الاحتلال ، والعنف المشروع للشعب المقاوم ، وعندها لن يجد شارون وشاؤول موفاز سوى الرد الممكن على يد شعب لم يتبق بين يده إلا جسده وحجارة الانتفاضة للدفاع عن نفسه ومن أجل مستقبله الوطني. وفي هذا السياق، علينا أن لا نكابر، ونحن أمام الحدث الجلل ندفن الشهداء، فالشعب الفلسطيني وقواه ليسا أمام عدو من النوع العادي، بل أمام قوة كبيرة مسلحة بتكنولوجيا القمع الفائقة التطور، الأمر الذي يفرض على الطرف الفلسطيني درجة عالية من حسن التصرف، وتحمل أوجاع الجروح النازفة بمزيد من الصبر والإصرار على وحدة الصف والتقاط النفس ، والقفز فوق حدود الاختلافات والتباينات مهما علا شأنها أو مقدارها. فالوفاء للشهيد المنتصر أحمد ياسين يكون بالضرورة مزيداً من الوحدة الوطنية.

* كاتب فلسطيني ـ دمشق