آخر المعتدلين

TT

لو كان الشيخ احمد ياسين بقي حيا يرزق، فإنه كان سيمتلئ سرورا بما جرى له، وما قيل فيه، فهذا الثائر المفكر العملاق كان يعلم تماما انه يقود جهادا مشروعا، وان العرب جميعا معه ويؤيدون ثورته التحريرية، وان العالم لا يستطيع ان ينكر عليه وعلى رجاله رفضهم الاحتلال والسلطات المحتلة، ولذلك فإن الدول والحكومات والمسؤولين في كل بلد خارج فلسطين، اعلنوا بكل وضوح استنكارهم واستنكار شعوبهم هذا الاغتيال الجبان، وأدانوا اسرائيل وحملوها مسؤولية، وعواقب ما ارتكبت يداها. وكان الشيخ احمد ياسين يدرك انه اختار الجهاد وسيلة مقدسة لدحر الاحتلال، وكان يعرف ان الجهاد وهو علاقة مباشرة بين المجاهد وربه، فاذا قضى، فسوف يبقى حيا عند ربه راضيا مرضيا، وهذه اعظم صفات الراحل الشهيد الكبير الذي لم يترك مناسبة الا تمنى فيها الاستشهاد في سبيل قضيته ومرضاة ربه، وكانت آخر كلماته، صلاته الى الله ودعاؤه، وهو يعرف ان الجيش الاسرائيلي والمخابرات الاسرائيلية وعملاءهما في الداخل، يترقبونه ويحصون عليه تحركاته وانفاسه، فبلغوه وقتلوه شهيدا بعد ان ادى واجبه تجاه ربه، وكامل رسالته تجاه الذين احبوه وساروا خلفه وحملوا السلاح مؤمنين برسالته ولذلك، يمكن القول من دون تحفظ أن الراحل الكبير حي يرزق، ينظر إلى مقاتلي حماس وأترابهم في فلسطين وفي اي مجتمع مقهور بالرضا والمباركة.

وعلى مر الزمان.. لم يبدأ مناضل ثورة ويقطفها بنفسه، بل لقد كان يرحل ويرحل الجيل الثاني، وأحيانا الثالث والرابع قبل الانتصار، لكن الزمان لا يذكر ثورة قامت ثم ماتت، وهذا بالذات ما كان يؤمن به الشيخ احمد ياسين، ويعرفه ويبلغ ابناءه من المناضلين به «ان الثورة الفلسطينية قامت كي تحرر فلسطين من الاحتلال وعندما يذهب الاحتلال تتوقف الانتفاضة تلقائيا».

ومن المؤسف فعلا، ان الولايات المتحدة التي تغطي وجهها وعينيها بغشاء اسرائيلي تعرف الحقيقة، ولكنها تنكرها حبا باسرائيل وطمعا برضى الصهيونية العالمية على حساب المبادئ والاخلاق وحقوق الانسان واتفاقات جنيف ومقررات الامم المتحدة ومجلس الامن، وليس من قبيل المصادفة ان الادارة الاميركية فقدت شرف قيادة المعسكر الديمقراطي الحر، وبدأ حلفاؤها يتخلون عنها حليفا بعد الآخر، فاذا كانت واشنطن قادرة ان «تعمل على العرب عنتر» فالامر ليس كذلك مع فرنسا واسبانيا وروسيا والمانيا والصين والآخرين الذين بدأوا يتململون امام عنادها ومكابرتها ومخالفتها المتتالية لحقوق الناس.

والذي لا شك فيه، ان الشيخ احمد ياسين لم يكن مناضلا وحسب، بل كان مفكرا يملك رؤية واضحة شديدة الحسم شديدة الاعتدال، وهذه اعظم صفات المفكرين الابطال الذين قامت على مبادئهم وتجارب نضالهم أسس الامن والسلام والطمأنينة بين الدول.

والذي لا شك فيه ايضا ان الشيخ احمد ياسين كان آخر رجل في العالم يمكن إلحاق تهمة الارهاب به، فقد كان يقول دائما ويكرر للغرب والشرق معا «ان الشعب الفلسطيني يقاوم احتلالا بغيضا على ارضه»، وكان يعلن بكل كبرياء «ان الثورة الفلسطينية التي يقودها، هي ثورة فلسطينية فقط لا علاقة لها بثورات الآخرين الا من حيث انها جميعا تنشد هدفا نبيلا»، وكان يقول دون خجل او خوف إن ثورته «لا تتدخل في شؤون الغير ولا تريد الغير ان يتدخل في شؤونها».

وبناء على هذه المواقف الحاسمة للشيخ الراحل، اعلنت عواصم العالم الغربي جميعها ـ باستثناء واشنطن ـ ان اغتياله عمل مخالف للقوانين الدولية لا مبرر له ولا وجه حق. فالعالم الغربي لا يستطيع ان يجعل الحق في الحرية والاستقلال عملا تخريبيا او ارهابيا.

واذا كان التاريخ عادلا، والحقيقة جريئة وقادرة على ابراز اسنانها، فإن التاريخ القريب، سوف يسجل على طاولة الادارة الاميركية ان اغتيال الشيخ احمد ياسين عمل جبان ناتج عن مفهوم خاطئ، واسرائيلي يزعم ان هذا الشهيد العظيم كان يقاتل العدل والحرية في العالم. ففي لحظة وداعه انطلقت اجراس الكنائس في كل فلسطين واصوات المشايخ في كل الجوامع.. ومن المؤكد ان هذه الصلوات لم تكن ترفع الا لثائر أصيل عاقل هو احمد ياسين، آخر المناضلين المعتدلين. وسوف نذكر الادارة الاميركية في وقت قريب ان اغتيال احمد ياسين هو اغتيال للاعتدال، لن ينتج عنه سوى فتح الباب واسعا امام العنف الذي لن يرحم ولن يهمل.