طريق طويل أمام فرز الحقيقة من الشائعات

TT

قبل عام لم يكن بوسع العراقيين، الذين كانوا ما يزالون يصغون الى المديح الذي لا ينتهي، والذي كان يقوم به الاعلام الرسمي لـ «الزعيم الممجد صدام حسين»، أن يتصوروا بأنهم سيكونون في وقت قريب قادرين على أن يختاروا مما يزيد على 200 صحيفة في أكشاك بيع الصحف القريبة. ومن سوء الحظ ان الصحف العراقية كثيرة العدد، متدنية النوعية. وينتهي الأمر الى أن التخلص من «الزعيم الممجد» كان شيئا، وتطهير العراق من ذلك النمط من التفكير والصحافة التي رسخها شيء آخر.

ما زلت أحاول. أنا أدرب العراقيين على أن يكونوا صحافيين، وأعيد تدريب بعضهم ممن هم صحافيون في الوقت الحالي، في برامج تستمر ثلاثة اسابيع، يديرها معهد التقارير عن الحرب والسلام في بغداد والسليمانية عاصمة كردستان العراق. ولكن بعد سنوات من قراءة صفحات من الاتهامات القاسية والتعليقات التي تفتقر الى الحيوية، والتصريحات المقرة مسبقا من جانب حزب البعث التي تتخذ صيغة أنباء، فإن المتدربين عندنا يواجهون مصاعب في فهم ما تعنيه الصحافة الحرة ومسؤولياتها في نظام ديمقراطي.

وتتمثل الصعوبة الرئيسية في جعلهم يفهمون أنه لا هم ولا آراؤهم يتمتعون بأهمية. ونحن نكتب هذا بحروف كبيرة بارزة على اللوحة التي نستخدمها في دروسنا التدريبية. وربما نحتاج الى أن نكتبها بحروف أكبر.

وقد أفادت قصة نشرت في الصفحة الأولى من صحيفة بغدادية، ان عضوا في مجلس الحكم، قال ان العلاقات مع الكويت بحاجة الى أن تعود الى طبيعتها. وتقول الجملة التالية بكلمات الصحافي نفسه «وقد كنا (نحن) نرغب في ان يقول هذا الشيء فقط بعد أن ينجز الكويتيون الوعود التي قطعوها للشعب العراقي». فمن هم «نحن»؟ اذا كانت «نحن» «التي تخص التحرير، فماذا تفعل وسط قصة اخبارية؟ ولماذا لا توضح القصة تلك الوعود الكويتية؟».

وتبقى فكرة اعداد التقارير الصحافية، أو جمع الأخبار بصورة مستقلة، غريبة بالنسبة لمعظم الصحافيين العراقيين. وقال أحد المتدربين العاملين في احدى الصحف العراقية الكثيرة، ان يوم عمله يتلخص في الجلوس وراء منضدته والإصغاء الى الاذاعة. وعندما يسمع أخبارا تثير اهتمامه، يكتب قصة اخبارية قائلا رأيه فيها. ومن الصعب اقناع شخص مثل هذا بأنه يتعين عليه بدلا من ذلك، أن يقضي يومه في الشارع متحدثا الى الناس أو السفر لمدة أربع ساعات عبر مرور صعب لإجراء مقابلات مع طائفة من المصادر يمكن أن تعطيه كمية مدوخة من المعلومات التي يتعين عليه من ثم ترتيبها وكتابتها كمادة متماسكة.

وترتبط الحالة المحزنة للاعلام العراقي في الوقت الحالي الى حد كبير، بثقافة البعث التي فرضت سابقا على الناس. فلفترة 35 عاما، كان الاعلام يستخدم لنقل آراء صدام وتعبئة الناس عند الضرورة. ولم يكن يجري ابلاغ العراقيين بما يفكرون به خلال عقود فحسب، وإنما بات الصحافيون أيضا يتوقعون ابلاغهم بالأخبار. وهذا ليس أمرا فريدا في العراق. فخلال الاعداد للحرب في الربيع الماضي، عندما كنت في السليمانية أعمل لصالح هيئة الاذاعة البريطانية، صادفت شخصا كنت قد تعرفت عليه في سورية، وكان قد كتب لصحف عربية عدة. وكان قد وقع عقدا للعمل كصحافي مستقل مع صحيفة لبنانية يغطي أحداث الحرب، وكان منفعلا بذلك. وقد طلب مساعدتي بحكم أنني كنت قد عملت في العراق لفترة معينة.

سألني: «الى اين أتوجه للحصول على الأخبار؟». أجبت مرتبكا: «حسنا، تخرج وتبحث عنها وتحصل عليها». قال: «نعم، ولكن أين ألتقطها ؟». وأخيرا أدركت انه كان يريد، فعليا، أن يعرف أين يمكنه الحصول على البلاغات الصحافية التي تعدها الحكومة يوميا، كما كان يفعل في سورية. وقد شعر بالاحباط عندما أبلغته بأن الأكراد ليست لديهم وزارة اعلام، وان عليه أن يخرج الى الشوارع ليجد الأخبار بنفسه.

ويشعر بعض الصحافيين العراقيين اليوم بالحيرة نفسها بسبب حل وزارة الاعلام. فبدون مثل هذه الوزارة وبدون عادة «الخروج والبحث عن الأخبار والحصول عليها»، فان بعض الصحف العراقية تلجأ الى نشر الاشاعات والقيل والقال ونظريات المؤامرة التي يستمع اليها المرء في الشارع. وماذا تكون النتيجة؟ تهيمن على أكشاك الصحف العراقية صحف التابلويد المثيرة للمشاعر، وصحف الأحزاب السياسية التي تروج لبرامجها. وما من صحيفة تعالج قضايا بأية طريقة عميقة وجذابة وغير متحيزة.

وتردد الكثير من صحف الأحزاب السياسية الجديدة أصداء الأسلوب البعثي في صحافة «المديح»، وهي تثني بطريقة رسمية على انجازات الحزب وزعيمه مهما كان ثانويا. وفي أعقاب التفجيرات المدمرة في كربلاء وبغداد، التي حدثت بعد يوم من توقيع الدستور المؤقت العراقي، كان الخبر الرئيسي في صحيفة المؤتمر الوطني العراقي حول زعيم المؤتمر أحمد الجلبي، وهو يتلقى مكالمة هاتفية من الرئيس بوش شاكرا اياه على دوره المحوري في المصادقة على الدستور. وظهرت قصة التفجيرات في النصف الأسفل من الصفحة.

أما صحف الاثارة العاطفية فأسوأ. وقد اصبحت شائعة بسبب أسلوب القيل والقال. ولكن شأن الاشاعات المحكية، فان القصص التي تنشر في هذه الصحف غالبا ما تكون غير حقيقية وحاقدة، بل حتى معادية للسامية. ان اغراءها لا يقتصر على الشغيلة. فحتى العراقيون المتعلمون يقرؤون ويصدقون بقصص مثل تلك القصة التي قالت (على نحو سخيف) بأن اليهود في مختلف أنحاء العالم قرروا التخلي عن بيوتهم ومشاريعهم التجارية في لندن وباريس ونيويورك لشراء كل الممتلكات في بغداد الجميلة.

وفي بعض الأحيان تبدو صورة الصحافة العراقية يائسة. ولكنها ليست كذلك. ان إحدى الجلسات الأكثر حيوية في دورتنا التدريبية هي الجلسة المتعلقة بالمعايير الدولية لعدم التحيز والدقة والنزاهة.

وقد كلفت احدى متدرباتنا في بغداد بمهمة الترجمة من جانب صحيفة محلية يصدرها أحد الأحزاب السياسية. وكانت قد كتبت موضوعا لبرنامجنا عما يفكر به العراقيون بشأن الغاء عقوبة الاعدام. ونحن ننشر قصص المتدربين بالإنجليزية على موقعنا على الإنترنت، وهم يسوقونها بالعربية الى صحف بغداد، وبالكردية الى الصحف الشمالية كجزء من جهودنا لتثبيت معايير أرفع. وعندما رأى رئيسها الجديد القصة في صحيفة اخرى تستخدم تقارير وقصص معهدنا، جاء اليها والقصة في يده وقال بلهجة تنم عن الازدراء «ما هذا الذي كتبته؟ نحن لا نعرف حتى رأيك هنا». وآمل أن يكون هناك المزيد من المقالات مثل هذه التي كتبتها المتدربة.

وربما تتحسن الصحافة عندما تكون هناك عملية ديمقراطية حقيقية في العراق. وفي الوقت الحالي، ما يزال القراء العراقيون مراقبين سلبيين للعملية السياسية التي هي، في معظمها، بأيدي الولايات المتحدة. فلماذا يتعين على العراقيين أن يهتموا بما قام به عضو في مجلس الحكم أو اقترحه وزير، حين لا يكون لهم دور في وضع ذلك المسؤول في منصبه، ولا يمكنهم أن يفعلوا شيئا لإبعاده عن المنصب؟ ولكن ما ان تبدأ الديمقراطية التمثيلية وظائفها، ويشعر الناس بامتلاكهم السلطة عبر صناديق الاقتراع، فقد يصبحون أكثر حماسا وتطلبا بشأن الاعلام. وسيرغبون في معرفة من سيمثل مصالحهم على نحو أفضل، لأنهم سيكونون قادرين على فعل شيء بشأن ذلك.

ومن اجل ذلك سيكونون بحاجة الى صحافة حرة، ليس لنشر الاشاعات والتعليقات فحسب، وانما لمساعدة الناس على تمييز الحقيقة عن الخيال، وعلى ان يكونوا مواطنين نشطين مطلعين في عراق ديمقراطي.

* كردي عراقي يعمل في معهد التقارير عن الحرب والسلام في لندن.

خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»