تأجلت لغير الأسباب المعلنة

TT

نستطيع ان نقول ونحن مطمئنون بأن القمة العربية أجلت لغير الاسباب التي اعلن عنها. اذ لا اتصور ان تلغى القمة لان وزراء الخارجية اختلفوا حول الاصلاح والتطوير وحقوق المرأة والمجتمع المدني، كما ذكر الاعلان التونسي، فذلك كلام لا ينطلي على أحد في العالم العربي، واذا استقبل بصمت داخل تونس لاسباب مفهومة، فإنه يتعذر تمريره هكذا ببساطة في بقية العواصم العربية، حيث يمكن رده بألف حجة ودليل. ذلك ان أمورا من ذلك القبيل يمكن التعامل معها من خلال الصياغات المرنة التي نعرفها جيدا ـ وخبرناها كثيرا ـ دونما حاجة الى نسف القمة العربية أو تأجيلها. خصوصا ان عواصم العرب تحفل بحوارات حول تلك الموضوعات، كلها تقرظ الاصلاح والتطوير وحقوق المرأة والمجتمع المدني، ولم نعرف ان عاصمة عربية اعترضت على أي منها، طالما ان الامر محصور في نطاق الكلام والتقريظ المجاني، الذي لا يرتب استحقاقات في الواقع.

ان الجميع يعرفون جيدا ان الاقدار شاءت ان تجتمع القمة في توقيت بالغ الدقة والحساسية، وأن ثلاث قضايا من العيار الثقيل فرضت نفسها على رأس جدول اعمالها، اولها الموضوع الفلسطيني بحلقاته الشائكة: بناء الجدار، والانسحاب الاسرائيلي من غزة من طرف واحد، واغتيال الشيخ احمد ياسين، في سياق تصعيد خطير استصحب اعلانا عن قائمة اغتيالات اخرى شملت 70من قادة المقاومة في فلسطين ولبنان. وثانيها ملف الاحتلال الامريكي للعراق، خصوصا ان هذه اول قمة تنعقد بعد اسقاط نظام البعث. اما القضية الثالثة فمحورها مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي طرحته الادارة الامريكية، ودعت فيه الى اصلاحات ديمقراطية في العالم العربي تحت رقابة غربية، والى ادخال اسرائيل قسرا وفورا في النظام الاقتصادي العربي قبل التوصل الى أي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

اذا جاز لنا ان نتصارح، فلا بد ان نسجل ان الولايات المتحدة الامريكية حاضرة في كل هذه القضايا، بدرجات مختلفة من القوة، حتى ازعم انها اصبحت طرفا رئيسيا فيها، ولاسباب عديدة على رأسها الانتخابات الرئاسية التي يجري التسخين لها الآن، فان الادارة الامريكية لا بد انها وضعت خطوطا حمراء تحمي مواقفها في التعامل مع تلك القضايا، واذا تذكرنا طبيعة تركيبة تلك الادارة التي تضم نفرا من غلاة المتطرفين والليكوديين الناشطين في مطبخ القرار السياسي، فان ذلك يصور لنا مدى الحرج الذي تواجهه القمة وهو حرج احسب ان تونس بوجه اخص على وعي كاف به، وهي التي زار رئيسها الولايات المتحدة والتقى الرئيس بوش في اجتماع نوقشت فيه «كافة القضايا التي تهم الطرفين»، من ثم فلا يحتاج الامر الى بذل جهد من أي نوع لكي يدرك ان القضايا التي تهم الولايات المتحدة المعروضة على القمة جرى تناولها بوضوح واسهاب.

وهذا ليس سرا بالمناسبة، فقد اذاعت قناة «أوربيت» يوم الاحد الماضي 3/28 حوارا مع الرئيس حسني مبارك حول ما جرى للقمة، اثير خلاله سؤال حول العلاقة بين قرار تونس تأجيل القمة وبين زيارة الرئيس بن علي لواشنطن ولقائه بالرئيس بوش، فكان رد الرئيس المصري: الكلام شائع في هذه النقطة، وقد سمعت به، لكنني لا اعتقد انه حقيقي الى هذه الدرجة.

هكذا، فانه في ظل السقوف المتوفره والحسابات الخاصة، فيبدو والله اعلم ان الامتحان كان اصعب واكبر من القمة. الامر الذي يستدعي سؤالا جوهريا هو: ايهما افضل في هذه الحالة. الرسوب في الامتحان أم تأجيل الدخول اليه لحين الاستعداد له على نحو افضل. طرحت السؤال بهذه الصيغة على أحد خبراء الشؤون العربية المخضرمين فكانت اجابته كما يلي:

* هناك خيار آخر غير الرسوب أو التأجيل، هو خوض الامتحان دون الاجابة على الاسئلة، أو توقع تحقيق الحد الادنى من علامات النجاح. وفي الظرف الراهن فان الحصول على درجة «ضعيف» افضل من الهروب من الامتحان بدعوى تحسين فرصة افضل للاجابة على الاسئلة المطروحة.

* أن العالم العربي مشحون بمشاعر الغليان والتوتر، ويبحث حتى عن قشه يتعلق بها، والمؤكد ان الجماهير لم تتوقع قرارات ثورية من القمة، ولن تفاجأ اذا انعقدت واصدرت بيانا دون توقعاتها فذلك دأبها دائما. واذا قارنا صدور بيان ضعيف عن القمة بحالة اليأس والاحباط التي يمكن ان تترتب على الهروب من المسؤولية، وهي موازنة بين شرين، فسيكون اصدار البيان الضعيف شرا اهون من الهروب من مواجهة الموقف.

* انه في ظل التصدع الحاصل في النظام العربي، فان الالتزام بعقد القمة العربية في شهر مارس (اذار) من كل سنة، يعد خطوة الى الامام لا ريب، ورغم انها خطوة شكلية، وان الاهم هو اداء الوظيفة ونهوض القمة بمسؤولياتها الحقيقية تجاه شعوب المنطقة، الا ان التقصير في اداء الوظيفة لا ينبغي ان يستصحب أو يسوغ الاطاحة بالشكل، وتلك بدورها موازنة بين شرين، ذلك اننا اذا خيرنا بين تعطيل الوظيفة وهدم الشكل، وبين الابقاء على الشكل مع القصور في اداء الوظيفة، فان الخيار الاخير سيكون اقل سوءا. من هذه الزاوية فان تأجيل القمة الى اجل غير مسمى على النحو الذي حدث في تونس، يمثل تراجعا عن الخطوة التي اتخذت للحفاظ على الشكل والحيلولة دون انفراط المشهد العربي، اسوأ من ذلك ان القرار اتخذ بارادة منفردة، ودون أي تشاور مع الدول العربية، بل وبدا انه غير قابل للمناقشة، حيث ابلغ وزراء الخارجية العرب وهم مجتمعون في تونس انه «قرار سيادي»، وجرى الاعتذار عن عدم اجتماع الوزراء مع الرئيس التونسي لبحث الامر، بحجة أن الرئيس مصاب بوعكة برد.

* ان هناك شواهد عدة على ان ثمة اطرافا عربية فقدت حماسها للعمل العربي المشترك، وآثرت ان تصطف في مواقع أخرى خارج السرب العربي، بمنظمته، لاعتقادها ان ذلك أدعى لتأمينها واحفظ لمصالحها في المدى البعيد، وهي تلك التي تنخرط فيما سمي مؤخرا بالعالم العربي الجديد، تميزا لها عن العالم العربي القديم الذي تقوده مصر وسورية والسعودية وهذه الاطراف دفعت باتجاه التأجيل ورحبت به، ولان التحديات والمخاطر التي تلوح في الافق تهدد العالم العربي بأسره، ولا تستثني منه احدا، حتى أولئك الذين يتصورون النجاة في الخروج على السرب العربي، فقد كان ضروريا ان يبذل جهد للحيلولة دون الانفراط بأي ثمن، حتى ان كان ذلك عبر عقد القمة والتوافق على حد ادنى لقراراتها.

ان المشهد الراهن يستدعي الى الذاكرة ما جرى في قمة عمان عام 1987 التي بدا فيها ان القضية الفلسطينية تراجعت اهميتها، رغم ان الزعماء العرب كانوا يجتمعون على مشارف المشهد الفلسطيني المسكون بعوامل الانفجار والتوتر، وكان البيان الذي صدر عنها آنذاك بمثابة صدمة لكثيرين، الامر الذي كان له اسهامه في تفجير الانتفاضة التي انطلقت شراراتها في الشهر التالي مباشرة لانعقاد المؤتمر (ديسمبر/كانون الاول عام 87). صحيح ان التحديات المطروحة في الوقت الراهن ضاغطة بشكل اكبر، ليس على فلسطين وحدها ولكن على العالم العربي بأسره، الا ان احدا لم يتصور ان القمة العربية هي التي ستصد الهجمة الشرسة، لان خبرات الماضي القريب ودروسه اقنعتنا بأن الامل معقود على الشعوب بالدرجة الاولى ولست اشك في انها قادرة على ان تنهض بما عليها ـ وفلسطين خير شاهد ـ اذا خففت الانظمة في ضغوطها عليها، ومكنتها من ان تواجه عدو الخارج، اذا لم تكبل من الظهر أو تطعن.