مبروك ليبيا

TT

معمر القذافي رجل مليء بالمفاجآت والافكار الغريبة، اوقعته افكاره هذه في الماضي بمطبات كثيرة أودت بليبيا الى كثير من المهالك. ولكن الله هداه الآن الى نوع جديد من المفاجآت والافكار. من العنف والارهاب انتقل الآن الى السلم والتفاهم وحقوق الانسان. وهي بدون شك خطوة حميدة تستحق من كل العرب والمسلمين والأسرة الدولية دعمها وتشجيعها قبل ان يغير الرئيس الليبي رأيه ويعود الى افكاره القديمة، أو ما هو أسوأ منها.

اكتشف القذافي ان الجري وراء اسلحة الدمار الشامل من قبل دولة صغيرة متخلفة كليبيا والعراق مضيعة للوقت والموارد وتعريض البلاد للخطر بدلا من تقويتها وحمايتها. بدأ الآن بصفحة جديدة مع الغرب تضمنت عدة اتفاقيات اقتصادية مع بريطانيا. يؤسفني منها اتفاق كبير على تدريب القوات المسلحة. هذه ايضا ستكون مضيعة للوقت والموارد. فليبيا دولة محظوظة في انها ليس لها أي عدو رابض وراء حدودها، وشعبها لا يعاني من أي منازعات فئوية كالعراق أو لبنان أو السودان. وهي ليست من دول المواجهة مع اسرائيل. يا ليت اخانا القذافي واصل نهج نزع اسلحة الدمار الشامل بنهج تقليص الاسلحة التقليدية ايضا وانفق التوفيرات على النهوض بتوعية المواطن والمستوى العلمي والثقافي للبلاد. وها هو درس آخر من العراق. فمقابل مقتل عشرين ألف جندي عراقي لم يخسر الامريكان غير نحو اربعمائة جندي واستسلم الجيش العراقي برمته في أقل من اسبوع. المواطن المثقف والواعي والمتطور والشبعان هو الدرع الوحيد للبلاد، ولا بديل لذلك. تستحق ليبيا من الجميع كل الدعم والتشجيع في مشوارها الجديد. ولكن يبدو ان المراقبين والمعلقين الغربيين يريدون وضع اسفين في العجلة بما يكفي لكبوتها. راحوا يرددون ان هذا لا يكفي على ليبيا ان تلتزم بالديمقراطية وحقوق الانسان ونحو ذلك. هذه طبعا نغمة سائدة في هذه الأيام، نغمة لم تعزفها الاجواق الغربية قبل عشرين سنة. لا أدري هل هي سذاجة من كل هؤلاء المثقفين الغربيين، أم مكيدة كما يقول بعضنا؟

دعوني اقولها كواحد كرس جل حياته للديمقراطية. الديمقراطية تتطلب ثقافة وخلفية وتربية وتجارب طويلة وزعامات ناضجة ونزيهة. حصل الغربيون على ديمقراطيتهم الراهنة (وهي ما زالت معيبة) بعد سبعة قرون من النضال والحروب والتجارب. كيف ينتظرون من شعب متخلف ان يطبقها بنجاح في سبعة أيام؟

الديمقراطية ليست شرطا للنهوض والرخاء. والغربيون يكذبون عندما يقولون انهم بنوا حضارتهم واقتصادهم بالديمقراطية وحقوق الانسان. لقد جمعوا خميرة ثروتهم من تجارة الرق واستخدام العبيد واستغلال الطبقة العاملة ونهب المستعمرات. امريكا بنت مدنها على جماجم الهنود الحمر وبعرق الزنج. ولم تكن فينيسيا وفلورنسة وروما ديمقراطيات برلمانية تحترم حقوق الانسان عندما قامت فيها النهضة الاوروبية، وخرج أولئك العلماء والمفكرون والفنانون الذين وضعوا لبنات الحضارة الغربية.

كلا، انعدام الديمقراطية ليس علتنا الرئيسية، كانت عندنا حياة برلمانية في مصر والعراق فما الذي انجزته غير عبد الوهاب وأم كلثوم? عندما سمع توفيق السويدي، رئيس وزراء العراق عندئذ، بطلب الاساتذة بزيادة رواتبهم قال وما الذي سيفعلونه بالزيادة غير ان يشربوا مزيدا من العرق ويسكروا!

علتنا أوسع وأعمق من مسألة الديمقراطية والحرية وامنع من ان يستطيع أي احد مناقشتها أو حتى الاشارة اليها. وفي غياب ذلك دعونا نقول للغربيين، مهلا. دعونا نمشي خطوة خطوة، نقلة نقلة.