لا.. ليس بسبب مؤامرة خفية..!

TT

ما حدث في تونس كان يجب ان يحدث، فالوضع العربي المستلقي على ظهره والمحملق في السماء، كان بحاجة الى صدمة عنيفة ليستيقظ من غفوته الطويلة وليدرك أن العالم كله تغير، وأنه إذا لم نتغير نحن بقرار إرادي ذاتي فسيجري تغييرنا بالقوة، ولهذا فـ«رب ضارة نافعة»، ولعل هزة القمة التي لم تنعقد توقظ الشعوب قبل الانظمة.

.. بالتأكيد سنبقى نقول ان هناك مؤامرة إمبريالية - صهيونية - سكناجية وراء تبعثر شمل العرب وإرجاء قمة تونس بالطريقة «الدراماتيكية» التي جرت، والحقيقة أن المؤامرة في نفوسنا نحن وفي دواخلنا. فوزراء خارجية الدول العربية ذهبوا الى العاصمة التونسية وفي صدر كل واحد منهم أزمة طاحنة وفتنة نائمة وخطة جاهزة للاشتباك مع زميله الذي يجلس الى جانبه.

ربما كانت تونس تسرعت بعض الشيء وربما لم يتقن الأشقاء هناك إخراج ما قاموا به، لكن وفي كل الأحوال فإن ما جرى لا يعكس أزمة تونسية خاصة بل أزمة عربية مستفحلة عنوانها ركوب أمواج المزايدات والاختباء وراء إصبع اليد لتحاشي دفع الاستحقاقات التي لا بد من دفعها، ومحتواها عدم تقدير الشقيق لظروف شقيقه والهروب من مواجهة الحقيقة بإلقاء المسؤولية على الآخرين.

لا شك في ان ما جرى قد أراح وأفرح الإسرائيليين وربما الأميركيين أيضاً، لكن إذا أردنا ان نضع اصابعنا على مكمن العاهة والألم ففي البداية لا بد من استبعاد ان تونس تحت ضغط الولايات المتحدة قد قامت بتلك «الغارة» المفاجئة فشتت شمل العرب وجعلتهم أضحوكة امام العالم وجعلت اسرائيل تفرك يديها فرحاً وتزداد قناعتها ويترسخ يقينها بأن هذه الامة لن تقوم لها قائمة.

إن كل ما في الامر ان تونس عندما رأت وزراء الخارجية العرب يمسك كل واحد منهم بخناق زميله، وعندما أحست بأن الفشل الذي حاولت تجنبه سيقع على أراضيها لا محالة، بادرت تحت ضغط ما كان يجري الى القيام بما قامت به، وهنا لا بد من التأكيد مرة اخرى أن قراراً بهذا المستوى كان يجب ان لا يتم بهذه السرعة وبهذه السهولة.

لا علاقة للولايات المتحدة بما جرى، مع أنها، ربما، أفرحها وأسعدها ذلك. والمؤكد لو ان هذه الازمة العربية التي تفجرت على هذا النحو تفجرت في عقدي الخمسينات والستينات، لقلنا ان الاميركيين قاموا بذلك في إطار خططهم التي كانوا بدأوا بتنفيذها بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة لوراثة الاستعمار القديم بكل صوره وأشكاله وبكل دوله وامبراطورياته وبخاصة فرنسا وبريطانيا العظمى.

لو أن هذا الذي جرى في تونس جرى في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لقلنا ان الجامعة العربية صنيعة بريطانية. وبما ان الولايات المتحدة كانت معنية في تلك الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية بإنهاء كل مظاهر وتجليات الاستعمار القديم في هذه المنطقة الحساسة من العالم فإن ما جرى هو استهداف لهذه الجامعة التي جمعت العرب خلال نحو ستين عاماً ولكن على أساس: «رؤوس مؤتلفة وقلوب مختلفة».

ربما تبادر الى أذهان البعض ان الدعوة الأميركية الى الشرق الاوسط الكبير، والأصح الشرق الاوسط الموسع، تقتضي التخلص من الجامعة العربية كهيئة إقليمية يحول وجودها دون انضمام دول غير عربية الى هذا الشرق الموسع المنشود، منها تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان وكل دول آسيا الوسطى وبالطبع إسرائيل.

إن هذا الاستنتاج إذا تناولناه بظواهر الأشياء يبدو منطقياً ويقودنا الى التسليم مع أصحاب هذا الرأي بأن ما جرى في تونس كان مؤامرة اميركية هدفها تفكيك المنطقة العربية لإعادة تركيبها وفقاً لما يخدم خطة الشرق الأوسط الموسع، وإغراق العرب في بحر هذا الشرق الأوسط المنشود كي يفقدوا وحدتهم وانسجامهم ولإشغالهم بقضايا وصراعات اخرى غير القضية الفلسطينية وغير الصراع مع إسرائيل.

إنه تسلسل منطقي إذا أخذنا الامور بظواهرها فقط، ولكن وقبل ان نجزم بهذا الأمر علينا ان نسأل أنفسنا: متى كانت الجامعة العربية حصناً لوحدة الموقف العربي بالنسبة للاصطفافات الكونية والصراع بين المعسكرات يوم أن كان هناك معسكر اشتراكي شرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي (الراحل) ومعسكر رأسمالي غربي بقيادة الولايات المتحدة التي يسود اعتقاد الآن بأنها اصبحت ترث الأرض وما عليها.

لم يحل وجود الجامعة العربية، حتى عندما كانت في ريعان شبابها، دون انقسام العرب بين المعسكرين المتطاحنين ودون أن يلتصق بعضهم بالغرب والولايات المتحدة ويقاتل مع هذا الحلف سياسياً وعسكرياً ويلتصق البعض الآخر بالشرق والاتحاد السوفياتي ويرفع العلم الأحمر وشعار الاشتراكية العلمية ويتسلح بالأسلحة السوفياتية.

ولهذا فإنه علينا أن لا نذهب مع التصورات «التآمرية» بعيداً فهكذا جامعة، لا هي تسر الصـديق ولا تغيظ العدا، ليست بحاجة الى ان ينشغل بها العالم وتنــصُبُ لها «الاميريالية الاميركية» الاشراك لتتخلص منها حتى تستطيع تنفيذ مشروع الشرق الاوسط الموسع.

لا شك في ان الابقاء على الجامعة العربية حتى بصيغتها الحالية ضرورة من ضرورات العمل القومي العربي في أدنى مستوياته، وهي وإن كانت أدوارها السياسية متواضعة منذ ان قامت وحتى الآن، فإنها قامـت بأدوار لا يمكن انكارها بالنسبة لمجالات الثقافة والتربية والتعليم والقـوانين والعمل والعمال ومجالات ثقافية واجتماعية اخرى كثيرة.

لكن ورغم ان هذه حقيقة لا يمكن انكارها فإن المؤكد أنه إذا بقيت هذه الجامعة بأوضاعها الحالية فإنها ستتآكل وستذوب، وستجد نفسها وسيجدها العرب ذات يوم مجرد مخلفات اثرية، مثلها مثل الاثار العربية في الاندلس التي عندما يراها بعضنا تستبد به الذكريات فينتحب حتى تجف دموعه وتتقرح مآقيه.

لا بد من ثورة داخل هذه الجامعة ولا بد من اعطائها اكثر من الحقن المنشطة حتى تستطيع ان تكون رافعة فعالة من روافع العمل العربي المشترك. وحتى عندما تتعارض وتتقاطع وتتصادم المصالح والسياسات العربية تكون هناك مرجعية محايدة وفعالة يمكن الرجوع اليها.

لو أن الجامعة العربية ارتقت عن وضعية وصيغة عام 1945، بحكم تطورات نصف القرن الأخير، فإن المؤكد ان ما حدث في تونس لا يمكن ان يحدث بالصورة التي حدث بها، وإن المؤكد ان وزراء الخارجية العرب لن يحزموا امتعتهم ويعودوا الى بلدانهم بدون اي انجاز وبدون ان تعطيهم الحكومة التونسية فرصة الاتفاق ولو على ما هو أقل من الحد الأدنى.

لقد شعرت تونس، التي ترددت كثيراً قبل القبول باستضافة القمة التي لم تنعقد، ان الابواب غدت مغلقة وأنه لا امل بالانقاذ فلجأت الى الخطوة المتسرعة «الدراماتيكية» التي لجأت اليها. ويقيناً لو أن الجامعة العربية تتمتع باللياقة المفترضة بعد ان اصبح عمرها نحو ستين عاماً، لانتهت الامور الى غير هذه النهاية المحزنة التي استدعت استنفاراً عاجلاً بدأته مصر وبادرت إليه دول عـربية معنية يهمها ان لا تصل الحالة العربية الى التشظي والانهيار.

والمؤكد ان مصر مستندة الى ثقلها ودورها التاريخي ستنجح ومعها دول عربية معنية اخرى في لملمة الوضع العربي من جديد، وستنعقد القمة العربية إن ليس في التاريخ الذي جرى تحديده وهو السادس عشر من ابريل (نيسان) المقبل ففي تاريخ آخر غير بعيد.. والمهم ان تنعقد القمة الدورية الرابعة حتى تنعقد القمة الخامسة في موعدها وحتى لا تكون قمة شرم الشيخ الاخيرة آخر القمم العربية.

حتى مجرد انعقاد القمة الدورية الرابعة في وقت قريب يعتبر مسألة هامة وضرورية، بعد ان حدث في تونس ما حدث. لكن ما هو منتظر من مصر ومن الدول العربية التي ترمي بثقلها في هذا الاتجاه ان لا يقتصر انجاز هذه القمة على مجرد الانعقاد، فالوضع العربي لم يمر بمرحلة اكثر صعوبة وخطورة من هذه المرحلة، والاستحقاقات المطلوبة من الدول العربية كلها وبدون استثناء تستدعي شجاعة فائقة في اتخاذ القرارات التي بدونها ستكون هذه الاستحقاقات مكلفة.

إن العرب حتى يواجهوا كل مستجدات الاعوام الاخيرة وحتى يستطيعوا التلاؤم مع معطيات هذا القرن الجديد، فإنهم بحاجة ماسة الى إصلاح جامعتهم وبحاجة الى إصلاح انفسهم.. والاصلاح الحقيقي لا يمكن ان يكون بقفزة عريضة ومرتفعة واحدة فلكل دولة من دولنا ظروفها الخاصة .. إنه عملية تراكمية وبناء لا يمكن انجازه الا بحجر بعد حجر.

لننسَ الطلب الاميركي ومشروع الشرق الاوسط الاوسع الذي يتحدث عنه الاميركيون فنحن بكل دولنا، مع بعض التفاوت بين دولة وأخرى بالطبع، لا تزال اقدامنا تنغرس في الماضي مع ان رؤوسنا وأجسادنا في القرن الحادي والعشرين. ولا نزال نتخاطب ونخاطب غيرنا بلغة هذا الماضي الذي من المفترض اننا ودعناه منذ ان بدأ هذا القرن بكل هذه الاحداث الخطيرة.

علينا ان لا نعلق تقصيرنا على المشجب التونسي، فتونس ومع انه كان عليها ان لا تتصرف بكل هذه العصبية وان لا تستعجل الامور وتدفع بالوضع الى الوضعية التي وصل إليها، لا تتحمل مسؤولية ما جرى وحدها.. إن الذي يتحمل مسؤولية ما جرى هو العرب كلهم وإن العرب سيتحملون مسؤولية ما سيجري وبخاصة إذا حوصر المصريون بمثل ما حوصر به التونسيون وانتهت كل محاولات الإنقاذ الى الفشل الذي سيؤدي حتماً الى الكارثة.