جائزة الملك فيصل التي ظلمت

TT

يوم الأحد الموافق 21 مارس الجاري كان يوم توزيع جوائز مؤسسة الملك فيصل العالمية والتي تمنح في مجالات مختلفة، الحدث مر مرورا عابرا، فلماذا؟

مقياس الامتياز في الإنجاز العلمي إنما هو محصلة المساهمة في التقدم البشري والإثراء الفكري، فإذا أضيفت إليه استمرارية النفع العام على مدار (ثمانية وعشرين عاما)ً لزم الأمر معها الاعتراف بقيمة البناء والباني.

أبناء المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز عندما فكروا في تكريم ذكرى أبيهم، لم يجدوا أكثر من الوقف الإسلامي مفهوماً يعبر عن إيمانهم بفكرة العمل النفعي المستمر، ليأتي عام 1976 معلناً ميلاد مؤسسة الملك فيصل الخيرية، بتطبيق مبتكر لفعل الخير، فهي مؤسسة لم تُحدد بالأنشطة الخيرية وحدها وإنما تعدته إلى تلك الاستثمارية لضمان الامتداد وبقائه، فالحكمة في المشاريع الخيرية أن يحكمها عقل مدبر، فيرتهن عِظَم الانتفاع بها بما يخلقه لها من موارد إنتاج تبقيها حية حتى تنتهي إلى غايتها، فكم من مؤسسات قامت لتقديم يد المعونة ثم ما لبثت أن اختفت لتذبذب قنوات الصرف عليها، وانصرافها عن مبدأ الاكتفاء الذاتي الذي إن فارق صاحبه سقط، ومن منطلقه، جاء توطيد النشاطات الاستثمارية لتضم الفنادق والمجمعات التجارية وشركات الصناعات المعدنية والسياحة وغيرها حتى تعود بربحها كاملاً على كل ما تبنته مؤسسة الملك الفيصل من مشاريع خيرية لا ربحية، فيستمر عطاء مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لخدمة الباحثين والمحافظة على التراث العربي والإسلامي، ولا تنقطع المنح الدراسية لطلاب الدراسات العليا الذين وصل عددهم حتى اليوم إلى 73 طالباً وطالبة على اختلافهم الديني والعرقي، ولا تحرم مناطق على امتداد نطاقها الأفريقي والآسيوي والأوروبي وحتى الأمريكي من 160 مشروعاً خيرياً أو يزيد، ولا يخسر البحث العلمي من دعمه مادياً فيثري بنتاجه الإنسانية، ولا تضيع فرصة تلقي العلوم في رحاب مدارس وكليات اجتمع لها من مراتب الكفاءة ما تفرق عند غيرها.

أما وقد جرت العادة أن يرتبط ذكر المؤسسة بجائزة من حملت اسمه وهي «جائزة الملك فيصل العالمية»، كان لزاما علينا أن نفرد لها مساحة وتفصيلا مناسبين، على اعتبار أن جوائزها الممنوحة قد عمّقت من التعريف بها عن باقي الأنشطة الخيرية للمؤسسة، فهي جائزة قد أنشئت عام 1977 بقرار من مجلس أمنائها، لتبدأ في منح أولى جوائزها عام 1979 في فروع ثلاثة تدور حول خدمة الإسلام والدراسات الإسلامية والأدب العربي، لينضم إليهم في عام 1981 كل من الطب والعلوم بتخصصاتهما فيعلنان انطلاقتها نحو آفاق عالمية أوسع، فإذا علمنا أن عشرة علماء ممن فازوا بجائزة نوبل العالمية قد سبق استحقاقهم هذا حصولهم على جائزة الملك فيصل العالمية وفي أدق التخصصات العلمية كالفيزياء والكيمياء والأحياء، ثم إذا أضفنا إليه أنه فوز قد جاء في أغلبه بعد سنة واحدة فقط من جائزة الملك فيصل، لا نكون قد جاوزنا قدرنا في المبالغة إن قلنا: «وكأن لجنة تحكيم جائزة نوبل تنظر لاختيارات الفيصل عند طرح أسماء المرشحين لديها؟» يكفي ما صدر عن نشرة «المعرفة والابتكار» الكندية في مارس عام 2001 بعد حصول الأستاذ الدكتور ساجيف جون على جائزة الفيصل للعلوم من تعليق جاء فيه: «هذه الجائزة إنما تمهد الطريق للحصول على جائزة نوبل»، هذه الجائزة العربية تستحق الإشادة فقد استطاعت أن تلخص بسنواتها الـ26 حاجز الفرق الذي كان من الممكن أن يفصلها عن اللحاق بمصاف جائزة بحجم نوبل بسنواتها الـ103! أمّا إذا لم يبق غير التكفير عن اختراع كالديناميت أساساً تقوم من أجله وبأمواله جائزة، فمن المؤكد أن الأمر لا يتساوى مع أبناء الملك فيصل، فعندما حرصوا على قيام جائزة تحمل اسم والدهم بعد وفاته لم يكن التكفير عن أي اختراع هو الهدف من ورائها، نعم، قد تختلف جائزة فيصل عن نوبل في اهتمامها بخدمة الإسلام والدراسات الإسلامية، نظير فرعي السلام والاقتصاد بالنسبة لنوبل، ولكنه اختلاف وارد يدل على توجهات كل من الجائزتين، ثم، ما هو السلام في عُرف نوبل! إن سلامنا هو ما نادى به رسول الإسلام (ص) فهل تتفق معاييره مع جائزة رشح لها المهاتما غاندي خمس مرات ولم يحصل عليها، ثم استحقها وبشهادة حكامها رجل كمناحيم بيجن!

إن ما يميّز جائزة الملك فيصل عن غيرها من الجوائز أنها غير مسيّسة، بدليل جنسيات وأديان الأشخاص الذين فازوا بها، فنوعية القرارات التي تتخذها لجنتها لا يحكمها إلا خدمة القضايا الإسلامية والإنسانية على حد سواء، فكيف يكون الأمر على حاله ولا نجده قد بلغ مداه مع الإعلام العربي! فيكون موعد الاحتفال السنوي بتسليم الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية، فلا نعلم له من خبر، ولا يلقى الحدث ما يستحقه من إشادة!

تذكرت، في سياقي هذا، لقائي بالعالم المصري أحمد زويل، حين التقيت به في عام 2000 فسألته عن سبب عزوفه عن ذكر حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية قبل ترشيحه لنوبل، فلم يزدني بأكثر من الاستشهاد بحديث له مع التلفزيون المصري وكيف أنه قد أتى فيه على ذكر جائزة الفيصل، وكأن ضآلة الجواب في مقابل ما أجري معه من مقابلات عربية وعالمية جعلته يستدرك بقوله: «كما أن الإعلام هناك (يقصد السعودية) لا يعطي الجائزة ما تستحقه بل يكتفي بمجرد خبر صغير عنها»، ولسان حاله يقول فلم أعاتب إذن إن أنا أغفلتها!

وقد يقودني هذا التساؤل إلى آخر مدفوعاً بالتمني، فقد غدونا نحن العرب في نظر الآخر وكأننا لا نحسن إلا قتالا أو تحفزا لانتقام، أما العلم وتقدير أهله فهما اثمن من أن ينسبا إلينا، وكما أن لكل تهمة دفاعها، فلم لا تكون جائزة الملك فيصل العالمية أحد بنود مرافعتنا! فلا يمضي من يفز بالجائزة كل عام دون أن ينتهزها التلفزيون السعودي من مناسبة ليسجل معه لقاءات تحكي عن تجربته وانطباعاته عن السعودية وشعبها، فلا يُنتظر من القائمين على المؤسسة أن يدفعوا بالجوائز التي لا تقل في مكافأتها المالية عن مبلغ المائتي ألف دولار أمريكي سنوياً عن كل مستحق لها، ثم يتكلفوا عناء عقد المؤتمرات الإعلامية لأولئك الفائزين، ولكن، وكما تعود الإعلام أن يطنطن لمناسبات بعينها، ليس ثمة سبب يدعو لها سوى الكشف عن أمور لو غابت لكانت أفضل من حضورها، فكذا ينبغي أن يكون تعديل المسار لتأتي جلجلة المشهد الإعلامي فيما له أثر وله رسم، فالمهمة لا بد أن تمتد ضمن نطاق الإعلام العربي، والسعودي على وجه الخصوص، حتى تتاح الفرصة لأناس لهم من الوزن الفكري والعلمي بأن يشهدوا بكل ما من شأنه أن يُسمع العالم بصفة الجائزة والقيم التي تحملها، التي هي جائزة العرب كافة، أما فيما يقع أمره على عاتق أمناء الجائزة أنفسهم فتتمحور جزئيته حول ضرورة تنشيط عمل إدارة العلاقات العامة التابعة للجائزة، لتتبع مراحلها على مدار العام، فلا تُقتصر الجهود على تاريخ تسليم الجوائز وحده.

وللحق أقول قبل الختام، وبقليل من الاستغراب أن الإعلام الغربي قد كان أكثر انصافاً في تناوله للجائزة، فكثير من دورياته ومجلاته العلمية وحتى صحفه قد أتت على ذكرها بما هي أهله. ومن مقتطفات ما حُكي عنها، تقول مجلة جامعة هارفارد: «إن مؤسسة الملك فيصل هي أكبر مؤسسة خيرية في الشرق الأوسط تهتم بالمحافظة على التراث الإسلامي ومساعدة الجماعات المعوزة وتقديم المنح التعليمية وتشجيع البحوث وخاصة في مجالات العلوم والطب والأدب والدراسات الإسلامية».

[email protected]