كرسي الشيخ ياسين.. صنع ما لم يصنعه ضعف الآخرين

TT

أذكر في آخر لقاء لي مع الشيخ ياسين في بيته قبل أربعة أيام من استشهاده كان يجلس على كرسيه وبدا عليه التعب والإرهاق وطلب من أحد معاونيه اتيانه بالدواء، حيث كانت نوبة «الكحة» تأتيه من وقت لآخر، كان عنده أحد المسؤولين الفلسطينيين، فاتحه الشيخ بقضية تجميد أرصدة الجمعيات الاسلامية وبالأخص مدرسة الارقم التي انشأها، كانت لهجته غاضبة وحادة: «لماذا تمنعون اللقمة عن أفواه الفقراء والمساكين؟ ماذا أصنع بالموظفين ومئات الطلاب المحرومين والنساء الأرامل اللواتي يأتين هنا؟». المسؤول بدا صامتا وواجما، وحينها قال له الشيخ «لقد زودتوها كثيرا.. اسرائيل تسرق أموالنا وأنتم تجمدونها. كيف تقبلون ذلك على أنفسكم؟».

الشيخ ياسين قبل ان يكون قائدا فذا ومقاتلا عنيدا وسياسيا محنكا كان انسانا طيبا الى ابعد الحدود، وربما عرفه الفقراء قبل الأغنياء وأبناء المخيمات قبل ان يلج الى عتبة المدن.. كانت النساء يأتين اليه طلبا لمعونة أو حلا لمشكلة، الطلاب والعمال والمخاتير والوجهاء كانوا من زواره الدائمين ولا يكاد بيته يخلو ليل نهار من زائر، سألته ذات مرة «الا تشعر بالارهاق من الزحمة التي على بابك»، قال «لا أستطيع ان أرد أحدا». كان الشيخ ياسين في نظر كثير من الفلسطينيين أبا حنونا قدم كل ما استطاع للفقراء والمساكين وأسر الشهداء والمعتقلين عبر إنشاء الجمعيات الخيرية والمدارس التي فتحت مجانا امام الطلاب الايتام. مع كل هذا كان الشيخ بين الساعة والأخرى يدخل اليه قادة الحركة ومسؤولون من الفصائل الفلسطينية أو مسؤولون من السلطة الفلسطينية، كانت تفتح امامه كثير من الملفات الساخنة والشائكة: الحالة الفلسطينية المعقدة، العلاقة المتأرجحة مع السلطة.. مشاكل تحدث بين اعضاء حماس والاجهزة الامنية.. الوفد المصري يناقشه في موضوع الهدنة. اسرائيل اتهمته دائما بأنه «ابو العمل العسكري ومموله الاساسي وانه الذي يشرف شخصيا على الجناح العسكري ويعطيه الاوامر»، خصوصا أنه كان أول من بذر العمل العسكري الاسلامي منذ اوائل الثمانينات.

عرف عن الشيخ ياسين بأنه «مفتاح» كل شي في الحركة، رغم انه لم يكن دكتاتوريا او مستبدا، بل كان من ميزاته انه يصغي للآخرين ويشاورهم في كثير من القضايا. لكنه كان يعرف كل صغيرة وكبيرة واليه يرجعون في كل امورهم حتى بعض القضايا التي يراها البعض بسيطة جدا، لذلك لا يمكن الانكار بأن غياب الشيخ ياسين كان صدمة كبيرة لحماس قد لا تستفيق منها بعد وقت قليل، لأن الشيخ ترك وراءه فراغا لن يستطيع أحد ملأه. لقد كانت شخصيته الكاريزماتية طاغية وذاكرته القوية تذكر من حوله بأن عجزه الجسدي لم يحل دون مشاركته في القرارات الصعبة والخطيرة. ميزة الشيخ ياسين انه كان «نقطة تجميع» داخل الحركة وتلتقي عنده جميع الآراء المختلفة، وهي ميزة ربما لم تتوفر لغيره، ومن ثم كانوا يقولون إنه صمام أمان للحركة ونجح بتجاوز كثير من الازمات التي كادت ان تعصف بالعلاقة بين حماس والسلطة أو حماس وحركة فتح.

قادة السلطة اعترفوا بأن الشيخ ياسين «من الشخصيات النادرة»، لكنهم كانوا يتحفظون من مواقفه السياسية رغم «لهجته الدبلوماسية المعتدلة» ويرون انه غير مستعد للتجاوب في الانخراط في الحياة السياسية. ورغم ما يقال انه كان من «الجناح المتشدد»، الا انه براغماتيته ومرونته كانت تظهر في كثير من الأحيان لدرجة ان رئيس الوزراء السابق محمود عباس استغرب من سرعة استجابته لموضوع الهدنة، لكن قبل شهر من استشهاده تشدد في إعطائها للوفد المصري والاطراف الاخرى التي تدخلت ومارست عليه ضغطا كبيرا وكان يقول «مافيش ضمانات مافيش هدنة».

الشيخ كان يؤمن دائما بأن المقاومة ضد الاحتلال ستكون الطريق الأوحد للتحرر من الاحتلال، وفي هذا كان يختلف مع قادة السلطة وفي بعض الاحيان مع بعض قادة حماس الذين كانوا يريدون دورا سياسيا أكبر للحركة. لم يكن من السهل عليه الجمع بين التناقضات الصعبة التي تنخر في كل شبر من جسد القضية والتي تناوشها جراحات الاتفاقيات والتسويات، فضلا عن جراحات الموت والدمار وسفك الدماء وهدم المنازل، أضف الى ذلك الحرب المسعورة التي شنتها حكومة الاحتلال على حماس في الآونة الاخيرة ونجحت في انتزاع عدد من القادة من حضن الزعيم والمؤسس، والذين كانوا بمثابة اذرعة قوية مثل الدكتور المقادمة واسماعيل أبو شنب وصلاح شحادة، لكن الكرسي الذي يحمل هذا الجسد النحيل صنع في نظر الكثيرين ما لم تصنعه عروش دول. لقد نجح في إعطاء حماس «ماركة عالمية» واقترن اسمه باسمها ونجح في استقطاب الدعم المادي والمعنوي للحركة لدرجة ان مسؤولا اسرائيليا وصفه ذات مرة بأنه «أكبر خطر استراتيجي على اسرائيل، وانه اذا لم تقم اسرائيل بتصفيته فانه سيقوم بتصفيتها».

كان الشيخ الشهيد يسير في حقل الغام حقيقي، ومطلوب منه دائما ان يقرر في وقت تتشابك عنده المصالح والضغوط والتوازنات المحلية والاقليمية ـ وفي اسخن وأعقد منطقة بالعالم ،كان مطلوبا منه ان يوازن بين عداوة اسرائيل المستحكمة واستحقاقات السلطة ومتطلبات الشعب ورغبات ابناء الحركة. وربما نجح في احيان ولم يحالفه الحظ في أحيان أخرى، لكنه نجح في ان يصنع من حماس تاريخا جديدا ويصنع منها رقما صعبا استحال على كثير من الاطراف تجاوزه. ولذلك فحماس ـ بعد الشيخ ـ ستجد انها امام تحديات كبيرة وربما مرحلة مختلفة، لكن الشيخ ياسين وبمشاركة القادة معه نجحوا في بلورة السياسات العامة التي يمكن ان تشكل طريقا سهلا لقادة حماس كي ينهجوا نفس نهج زعيمهم الراحل.

* رئيس تحرير مجلة «الرسالة» ـ غزة