مقعدان وثلاثة مصورين

TT

تَفاكهَ كتَّاب كثيرون حول السمنة والبدانة. وتهكم البدناء على انفسهم لكي يسخّفوا بذلك سخرية الآخرين منهم. وتقبل البعض الآخر سمنته مدى الحياة، فاصبحت منه واصبح منها. وكان الشاعر كامل الشناوي من اظرف البدناء واكثرهم رقة. وكان سعيد فريحة كلما اراد ان يمحي نفسه امام حسن فتاك، يشبه حجمه بحجم شجرة الجميز، مع ان سمنته لم تكن في اي مرحلة خليقة بمثل هذا التشبيه. وللمناسبة فان الشناوي وفريحة كانا من كبار العشاق والهائمين والمتيمين.

قبل ايام ارسل اليَّ الزميل تركي الدخيل مسودة كتابه «مذكرات بدين سابق» يحكي فيها ما كان يلقاه من مصاعب ومتاعب ـ وما كان يسببه لسواه ـ يوم كان يزن، ما شاء الله ، 180 كيلوغراماً. وقد خسر الى الآن 50 منها، اي انه لا يزال يزن 130 كيلوغراماً، ومع ذلك اعتبر انه اصبح «سابقا» في عالم السمنة. ولم ارَ تركي في طبقته الحالية بعد، لكنني التقيته وهو «سابق» في الطائرة، وفي الرياض، وفي البرَّ. ولم يخطر لي لحظة واحدة ان هذا الشاب الظريف والطيب هو في وزن رافعة. لكنه، ما شاء الله، كان يتحرك ناقلاً معه 180 كيلوغراماً ومعها خفة ظل متنقلة ايضاً.

اكثر ما يستظرف المرء حين يسخر من نفسه ويتهكم عليها. وفي هذه المذكرات ترى تركي الدخيل على الدوام في مواقف مضحكة، فكهة، لكن عندما نتخيلها ندرك انها كانت خشنة وصعبة وقاسية على صاحبها. فالسفر كان يكلفه ضعف ما يكلف الآخرين لأن كرسي الدرجة الاولى وحده كان يتسع له. وحتى هذا كان يلزمه شريط حزام اضافي لكي يستطيع الالتفاف حول زوائده وفوائضه. وعندما لم تكن هناك درجة اولى كان يتعين عليه ان يشتري تذكرتين سياحيتين لمقعدين متلاصقين. وذات مرة اكتشف، بعد ان دخل الطائرة، انه يحمل فعلاً تذكرتين لكن كل واحدة منهما في صف: الاولى في الوسط والثانية في الذنب.

وذات مرة وصل مع اصدقائه الى فندق في بيروت وهو يشير بفرح شديد. ودخل الحمام فاستحم وهو يصفّر طرباً. واشتدت عليه حاجته فجلس على الكرسي المخصص عادة لانسان واحد، فسقط تحته، واصدر السقوط دوياً مثل انفجار وهرع اصدقاؤه وموظفو الفندق يستطلعون. وادرك انه لا يمكن ان يقول لأحد على الاطلاق ما الذي حدث، فهو مضحوك عليه من دون خبر من هذا النوع.

يعرب الرجل الانيق الحالي عن سروره بنزع 50 كيلوغاماً من الشحوم واللحوم والانتفاخ. وبعد الآن سوف يكون بامكانه ان يدخل الفندق منفرداً، اي دون ان يبدو وكأن معه مرافقان، وسوف يستطيع ركوب سيارة في المقعد الخلفي، ولو مع بعض المساعدة. واصبح من الممكن له ان يركب درجة الاعمال في الطائرة دون ان يدفع الفرق. وان يجلس الى مائدة طعام مثل بقية البشر. وان يراسل التلفزيون من دون الحاجة الى ثلاث كاميرات وثلاثة مصورين. وعندما يقرأ عن عرض للعطلة في بلاد سعيدة ما، يستطيع ان يقول لمنظم الرحلة: احجز لي من فضلك دراجة نارية وسيارة مكشوفة. والاهم انه سوف يوفر الكثير في اجرة الخياطين وتكاليف البدل. ولن يستطيع اي محتال قماش بعد الآن ان يقول له: «ما هو حضرتك قد ثلاثة»! او ان يقول له آخر وهو يحمل «ماسورتين» للقياس وصلهما ببعضهما البعض: «ما تحاول تخف شويتين يا باشا. مش باقي جوخ في البلد».