ليُطرح برنامج الإصلاح الأميركي على الاستفتاء

TT

انهم يقتربون من مواجهة الحقيقة، وما تأجيل القمة العربية سوى الخطوة قبل الاخيرة للاعلان باننا «شعوب» عربية تطبعت كل فئة منها بطابعها الخاص، وتتطلع بالتالي الى تحقيق اهدافها الخاصة، وما يعرقلها هو الكلام الكثير المطاط عن الوحدة العربية، والتطلعات الواحدة وما الى ذلك من مطبات ظل فمها الشره مفتوحا فابتلع التقدم والحرية والمساواة والحقوق والعدالة. كانت العلامة المميزة لماركة «الوحدة العربية» التجارية، مظلة تتدلى منها القضية الفلسطينية، لا لحلها او لتسهيل استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه، بل لتعمل الانظمة العربية ما تريده بشعوبها، الى درجة «الغاء» وجود هذه الشعوب.

والوجود هنا يعني الديمقراطية وحرية التعبير وحرية التنقل، وحق «اكتساب» جوازات سفر، وحق مساءلة المسؤولين المتخمين منذ سنوات الى درجة ان هذه التخمة حجبت عنهم الرؤية.

كان من شروط العلامة المميزة لماركة «الوحدة العربية» التجارية، صرف الاموال الطائلة لبناء الجيوش والاجهزة الامنية وتركيب ديون وابتزاز دول اخرى غنية واخرى ضعيفة. وكانت القضية الفلسطينية هي البوابة، لا للوصول الى تحرير الاراضي الفلسطينية المحتلة انما الى حبس انفاس الشعوب الى درجة تحجمت معها الادمغة.

كانت الظروف السابقة تساعد على رتق كل خرق تتعرض له «مظلة الوحدة العربية»، حتى احدثت عمليات 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية خرقا واسعا جدا، لم تعد تنفع في رتقه التصريحات او التهديدات او حتى تبادل المعلومات الامنية مع الغرب وبالذات مع الولايات المتحدة. بعض الانظمة العربية اخذته الشماتة لتعرض اقوى دولة في العالم لمثل هذه الضربة في قلبها الاقتصادي والعسكري، لم يقدر ابعاد تلك العمليات على العالم وبالذات على العالم العربي، اما الدولة الاقوى في العالم إن كان اقتصاديا او عسكريا (اسلحة تقليدية واستراتيجية ونووية بالذات) فقد فتحت عمليات ايلول نظرها على ان ضعفها يكمن خارج حدودها ايضا، وقررت قطع الفتيل الذي يمتد من الخارج وصولا الى نيويورك وواشنطن، فبدأت في افغانستان وتحولت الى العراق، ثم توجهت الى باكستان، وحددت بذلك خريطة الشرق الاوسط الكبير الذي تنوي اجراء تغييرات داخلية فيه، وهي ان لم تنجح في اجرائها جماعيا ستعمل جاهدة على انجاحها داخل كل دولة على حدة، علّ هذه الدول تلتقي لاحقا بعد ان تكون مرت بتجربة ولادة جديدة شاقة لا بد منها.

ان ما حدث نهاية الاسبوع الماضي في تونس دليل على ان التغيير بدأ فعلا، وككل حالة تغيير لا بد من مقاومة لرفضه و«شر نعرفه افضل من خير لا نعرفه»! لقد أخطأ العرب عندما رفضوا «مسودة» خطة، قد تكون تسربت خطأ او عن قصد، وهذا الرفض وهذا التناحر لا يعودان فقط الى تعرضهم لضغوط اميركية بل ايضا الى ضغوط اوروبية ودولية. ولن يحدث بعد العراق تغيير الانظمة بالقوة العسكرية، بل كما حدث مع دول اوروبا الشرقية سابقا ومع دول الاتحاد السوفياتي. في بولونيا قامت حركة غدانسك، وفي رومانيا اردي نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته هيلينا، وفي المانيا الشرقية هرب الجنرال هونيكر، ثم انهار الجدار الحديدي وتغير وجه اوروبا.

في بعض الدول العربية جدران كثيرة بين القادة والشعوب، والاشطر بين هؤلاء القادة من يبدأ بهدم الجدران من ناحيته، حتى عندما تطل الشعوب يبقى هو في الحكم.

لقد كشف تأجيل عقد القمة العربية في تونس عجز بعض المسؤولين العرب عن مواجهة التحديات المتزايدة لتطلعات شعوبهم. واظهر انهم مصرون على تجنب الاقدام على اصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. والاعلان عن تأجيل انعقاد القمة وعدم اصرار احد على عقدها في موعدها المحدد، لان الوزراء صعقوا! يعتبران ضربة كبيرة للعالم العربي كان وقعها اشد تأثيرا من وقع تعرض شخصيات فلسطينية للاغتيال مثل اغتيال الشيخ احمد ياسين، اذ كانت الشعوب العربية تأمل بان تتخذ القمة قرارات قوية تتعلق بـ«الاخطار التي تهدد العالم العربي»، حسب ما يردده المسؤولون العرب منذ حرب العراق. وهذا يعيدنا الى واقع يتصرف على اساسه الكثير من الزعماء العرب انما يرفضون الاعتراف به علنا، وهو ان كل دولة تركز على مصالحها الخاصة وتتجاهل المصالح المشتركة. وللحقيقة، لا عيب في ذلك، لو كانت كل دولة تنصرف لتحقيق مصالحها الخاصة (والدولة هنا تشمل الطرفين: القادة والشعوب) ولا تتهم بقية الدول بالعمالة او بالتقصير. ولا بد ان تتضمن المصالح الخاصة لكل دولة التفكير بمساعدة الشعب الفلسطيني للعيش بسلام في دولة مستقلة، لانه لا مصالح خاصة يمكن ان تتحقق خصوصا للدول التي يعيش فيها مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين.

ليس معروفا لماذا رفض بعض وزراء الخارجية العرب الاقتراحات التونسية لادخال اصلاحات ديمقراطية الى العالم العربي مثل حماية حقوق الانسان، تحسين اوضاع المرأة، تقبل قيم التسامح والتفاهم، ومبدأ الحوار بين الحضارات. ولو ان الوزراء قبل رفضهم ناقشوا هذه الاقتراحات وتوقفوا عند كل واحدة منها لوصلوا الى اوضاع المرأة ولانتبهوا الى ما يجري في العراق الآن من خطف للبنات من قبل عصابات مسلحة من الرجال، حيث تتعرض الشابة لاغتصاب جماعي ثم تطلق عليها النار كي تموت.. ولو لم يكن وزراء الخارجية العرب مشغولين بمستويات الرفض لكانوا قرأوا ما ذكرته ينار محمد رئيسة تحالف المرأة العراقية عن تعرض 350 امرأة للخطف والاغتصاب، منذ انتهاء الحرب على العراق. ومن لا تموت منهن يرفض اهلها مساعدتها او استعادتها، بل يقتلونها لانها بنظرهم جلبت العار على العائلة! وآخر هذه الحالات قصة بدور ابراهيم ابنة التسعة عشر عاما، التي نقلتها الشرطة الى مستشفى الكندي في بغداد، وقبل ان تلفظ انفاسها الاخيرة اخبرت قصتها: «خطفوني بقوة السلاح من بيتي، وتعرضت للاغتصاب مدة 16 يوما ثم اطلقوا النار علي».. وتقول الممرضة، «اجرينا عملية جراحية لبدور وعندما استفاقت طلبت امها ولما ادركت ان الام لن تأتي، استسلمت للموت» (صحيفة الاندبندنت اون صانداي 28 مارس 2004). كان يمكن للوزراء العرب لو كانوا يملكون شجاعة مناقشة وضع المرأة في العالم العربي، ان يقرروا مواجهة سلطة التحالف الاميركية ـ البريطانية في العراق، التي تعتبر حالات خطف النساء واغتصابهن وقتلهن، «ظاهرة فردية»!

لا ننفي انه بسبب المناخ السلبي المسيطر على العلاقات العربية ـ الاميركية، فان اي اقتراح من واشنطن سيواجه بكثير من الريبة.

ومن المؤكد ان عدم معالجة واشنطن للصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني ساعد على انتقاد القادة العرب للخطة الاميركية للاصلاح واعتبروها تدخلا في شؤونهم الخاصة، لكن المشكلة انه من دون تدخل الولايات المتحدة في المنطقة، لن يكون هناك حل للمشكلة الفلسطينية. لقد تذرع بعض المسؤولين العرب في رفضهم اي اصلاحات تأتي على شكل اقتراحات من الولايات المتحدة، بغليان الشارع العربي، لكن الشارع العربي يغلي لاسباب كثيرة ومختلفة، واحدها عدم قدرة الحكومات على توفير العيش الكريم والكرامة والفرص وايضا المستقبل. ولهذا جاء رفض مناقشة التفاصيل، بل التأكيد على ان اي اصلاح يجب ان ينبع من الداخل، لكن لم يتم تقديم خطة لهذا الاصلاح النابع من الداخل ولن يتم الاتفاق على اي اصلاح، حتى لو وعد الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى بان قمة ستعقد خلال الاسابيع السبعة المقبلة، وكان الاولى بالرافضين للاصلاح ان يطرحوا ما وصلهم من مسودة الخطة الاميركية على الاستفتاء، لأمكن عندها معرفة ما اذا كانت الشعوب العربية ترغب في اصلاح اوضاعها الى الاحسن.

لقد اظهر تأجيل القمة العربية عدم ادراك بعض القادة للاحتقان والغضب اللذين يسيطران على الشعوب، وادى التأجيل الى عدم مناقشة مبادرات السلام المطروحة لاقامة دولة فلسطينية مستقلة، مما يعني ان بقاء المعاناة الفلسطينية ومعها الاغتيالات الاسرائيلية المستهدفة ضروريان لعدم تحسين مستوى معيشة الشعوب العربية.

لو كانت المناخات المتوفرة في الدول العربية صحية لتم التشجيع على اصلاحات تنبع من الداخل ولا تأتي من الخارج.

على كل فان اي قمة مقبلة سوف تعقد، لا بد ان تناقش فيها مواضيع جذرية كثيرة. لقد اوقع تأجيل قمة تونس شرخا بين بعض الانظمة العربية وبين شعوبها، ولا بد لهذه الانظمة من مواجهة «الموسيقى» كما يقولون. واذا كانت الاسابيع الفاصلة بين التأجيل والقمة المقبلة فرصة للقادة العرب لمراجعة مواقفهم الرافضة، فهي يجب ان توفر فرصة ايضا للاميركيين والاسرائيليين لمراجعة سياساتهما التي تشل اغلب الحكومات العربية المعتدلة.

ان هذه السياسات، تجاه الفلسطينيين بالذات، تحرج الدول العربية المعتدلة، وتمهد الطريق لقيادات متطرفة. ان وصول الدول العربية الى طريق مسدود سيخلق فراغا سياسيا في العالم العربي بسبب السياسات المتطرفة الاميركية والاسرائيلية، لان هذه الدول بتخوفها من احتمال ان يطيح بها اي اصلاح، وبعد ان تجلى ضعفها امام شعوبها بتأجيل قمة تونس، صارت مكشوفة، وستشعر الشعوب اليائسة، ان البديل عن كل شيء، مبادرات وانظمة، هو في الحركات الاسلامية المتطرفة، فتنتقم بذلك من واشنطن وتل ابيب وانظمتها. المشكلة ان الوعي غير متوفر على صعيد الشارع العربي ككل. لقد بدأ التغيير حقيقة، فاما ان يقتنع السياسيون بضرورة البدء في تطبيق الاصلاح، خصوصا الاصلاح السياسي، واما ان تكتسب الجماعات الاسلامية المتطرفة التأييد الشعبي، وعندها سيتسابق الكثيرون للقفز من السفينة!