لماذا وأين فشلت تونس..؟

TT

بعد أن تقلصت فرص المناورات، ونفذت كل الأقنعة الممكنة الوضع، تم ابتكار الهوامش فضاء جديدا قديما، لممارسة المناورات الوهمية. إلا أن مثل هذا الابتكار، قد أكد للمرة الألف بأن الأداء السياسي العربي، يفتقد إلى النضج، ويشكو من ضعف قدرة الفاعلين السياسيين في إيجاد الحلول، وتحديد وصفات للعلاج السياسي الاقتصادي والمجتمعي. ولعل ما حف بقرار تأجيل القمة العربية الذي أعلن عنه يوم السبت مساء، قد عرى هذه الحقيقة وقبض عليها وسلمها متلبسة بضعفها، وبقلة نضجها لمختلف فئات الشعوب العربية.

ولكن هل أن الطامة الكبرى تكمن بكليتها في قرار التأجيل في حد ذاته؟ وإلى أي حد تتحمل تونس مسؤولية تلك الطامة، ثم هل أن ما أطاح بعقد القمة في موعدها قابل للمعالجة، أم أن صراعات تجديد الزعامة أو الترشح للزعامة، سيظلان الكابوس الحقيقي لأي قمة مقبلة بعد أربعة أيام أو أربعة أسابيع أو حتى أربعة فصول ؟

من الواضح جدا أن قرار تأجيل القمة العربية قد اتخذته تونس في ظروف لا تخلو من تشنج وغضب شديدين. ومن المؤكد كذلك أن هناك أسبابا، على الأقل من وجهة نظر الدولة التونسية، كانت تبدو منطقية وشافية، إلا أن فشل تونس في تسويق دواعي قرار التأجيل، وعدم انتباهها إلى ضرورة الاستعانة بخطة إعلامية محكمة، قد أفرغها ظاهريا من حججها كافة، حتى المنطقية منها. فالبيان الذي قرأه كاتب الدولة لدى وزير الخارجية التونسي، كان شديد الغموض والتكتم والانغلاق، ولم يراع هذا البيان أنه يتوجه إلى متلق عربي من المحيط إلى الخليج، يتابع لحظة بلحظة وينتظر ما ستتمخض عنه القمة من قرارات، فكأن البيان موجه إلى المتلقي التونسي فقط.

ولسوء الحظ استغلت بعض الأطراف التكتم التونسي، وغياب المعلومات الحقيقية للإساءة إلى تونس، وللمزايدة بشكل صريح ومفضوح، بل أن هذه الأطراف نجحت مع الأسف في تحويل وجهة الانتباه، وبسرعة البرق من دواعي التأجيل وحقائق الاختلاف والتباين، إلى التأجيل في حد ذاته، وربطه بسوء نية بترحيب إسرائيل وسعادتها به. لذلك فإن التدخل لمعالجة آثار قنبلة تأجيل القمة، قد حصر القضية في مكان عقد القمة وكأن سبب تأجيل القمة يتعلق بدواع جغرافية! وهو في الحقيقة اختزال ضعيف لحقيقة المآزق، واجتهاد يخلو من امتصاص جدي للأزمة وأسبابها العميقة.

ويظهر أن دواعي قرار تأجيل القمة كانت هي بيت القصيد، رغم أن الكثير قد اهتم بالصدر وأدار ظهره للعجز!

ولا شك في أن التشنج الذي اصطبغ به قرار تأجيل القمة وانفراد تونس به، من دون القيام بتنسيق مع بقية الحكام العرب، علاوة على التكتم حول أسباب قرارها، وتقديم بيان عام وكثير الثغرات، كل هذا لا يتناسب بالمرة مع رصانة السياسة الخارجية التونسية وعقلانيتها وديبلوماسيتها، ولا مع تاريخ مساندتها للقضايا العربية، وعمق إحساسها القومي.

علما بأن فشل تونس في تسويق مبرراتها واتخاذ الوقت والاحتياطات اللازمة لذلك، قد حملها مسؤولية هي ليست مسؤوليتها كاملة، وسلط عليها الضوء المليء بالاتهامات المغرضة أحيانا. فما هي إذا دواعي قرار تأجيل القمة ؟

في الحقيقة رغم كل هذه الضجة التي حدثت، والمناورات التي حصلت في منطقة هوامش الوعي العربي، علاوة على ركوب البعض هذه الضجة لاستثمارها، فإن بعض الحقائق والمفاتيح والأسرار مازالت عصية على الادراك. إن الإيجابية الوحيدة لقرار تأجيل القمة العربية تتمثل في أن القرار قد أتاح لنا تصور عمق الصراعات العربية الداخلية ومدى خطورة ما يجري في مطبخها السري، وهي صراعات قد عبرت عنها عديد تصريحات المراقبين الذين قسموا العالم العربي المتأزم برمته، إلى بلدان كبيرة وبلدان صغيرة!

مع التلميح بالدور الأمريكي في هذه الصراعات: فهناك من يتحدث عن ضغوطات أمريكية إبان زيارة الرئيس التونسي مؤخرا إلى أمريكا، إضافة إلى إن مصر ترغب بشدة في توظيف هذه القمة لصالح لقاء رئيسها بجورج بوش قريبا، ولذلك فإن قرار تأجيل القمة، وخاصة الطريقة التي تم بها، قد نزل بردا وسلاما على الدولة المصرية إلى درجة أن التحرك المصري والاتصال بالدول العربية قد فاق سرعة مائة خيل في الثانية! وهكذا ضاعت دواعي التأجيل بين الأقدام والهرولة السياسية، فأصبح الهاجس الآن ليس هو احتواء الخلافات عن طريق معالجتها وتقريب مشاريع الاصلاح، بقدر ما تحولت وجهة الجهود السياسية والديبلوماسية نحو إعادة روائح المطبخ العربي السري إلى سابق سريتها!

أظن أن التسابق في الشكليات، وعمل كل دولة عربية بشكل منفرد، وذلك في إطار من المفروض أنه يتوخى الاشتراك في العمل والتشارك في تفكيك الأزمات المحدقة بنا، يعد انفصاما في الوعي السياسي العربي.

وإننا لنعجز عن فهم ظاهرة كثرة المبادرات ومقاربات الإصلاح، في حين أن المنتظر هو الالتفاف حول وثيقة واحدة ومشروع واحد ومبادرة إصلاحية تكون خلاصة توفيقية وتمثيلية لكافة الدول العربية.

يبدو أن كل طرف يحاول أن يشد الحبل إليه وهي محاولة تتحكم فيها قناعة خاطئة مفادها أن الخلاص لا يكون إلا فرديا أي قطريا، وكل دولة تنجو بنفسها، في حين أن كافة الدول العربية في موقف الغرق ولا يوجد أمامها سوى طوق واحد للنجاة.

كما أن قرار تأجيل القمة العربية قد مارس نوعا من الدعاية المضادة للقمة، لذلك فإن مسؤولية النخب السياسية العربية الآن تبدو مضاعفة مقارنة مع ما قبل قرار التأجيل. إذ أن المزايدات التي قامت بها بعض الأطراف العربية، لابد من أن تتم ترجمتها إلى قدرة في الفعل، وفي تقديم الإجابات الحقيقية لجبال متراكمة من الأسئلة والقضايا، بل أن تلك المزايدات، لابد من أن تخترق عمليا وبنفس الشجاعة والتطوع، مواضيع احتلال العراق واغتيال الشيخ ياسين والموقف الواضح والصريح من الإرهاب. ذلك أنه إذا كانت هناك املاءات أمريكية لمباركة مسودة مشروع الشرق الأوسط الكبير، فهي املاءات لا تفرق لا بين تونس ولا بين مصر، ولا غيرهما. علما بأن الحد الأدنى الذي كان منتظرا من القمة العربية، قد تعالت درجاته، وأصبحت الانتظارات أكثر صرامة، فهل يحمل لنا التهافت والهرولة السياسيين لبعض الأطراف العربية إشباعا لبعض التوقعات، أم أن المسألة ليست أكثر من جعجعات في المطبخ السري العربي؟!

* كاتبة وأديبة تونسية

[email protected]