كيف يمكن مواجهة فشل قمة تونس؟

TT

انفرط عقد القمة العربية في العاصمة التونسية قبل انعقادها أصلا، وتدافع وزراء الخارجية العرب نحو باحة الخروج، بعدما فاجأهم وزير الدولة للشؤون الخارجية حاتم بن سالم بالقول بأن ثمة «قرارا سياديا» ومن أعلى المستويات اتخذ بتأجيل أشغال القمة وإلى أجل غير مسمى، وكان ذلك في الوقت الذي بدأت تتجه آراء وزراء الخارجية العرب نحو مزيد من التقارب والتوافق سواء في موضوع الإصلاح الهيكلي للجامعة، أو من جهة إصلاح الأوضاع العربية عامة بما يجعل من انعقاد القمة امرا مسلما به، ولكن يبدو أن البلد المضيف عزم أمره بنسف ما تم بناؤه متذرعا «باستبعاد مسائل جوهرية مثل رفض العنف والارهاب» وقد ورد في البيان الرسمي الصادر مباشرة بعد الغاء القمة «إن تونس أكدت في المشروع الذي قدمته للقمة بشأن الإصلاحات العربية على ضرورة تمسك العرب بقيم التسامح والتفاهم....والرفض المطلق للتطرف والتعصب والعنف والحرص على التصدي لهذه الظواهر في إطار التعاون والتضامن الدوليين».

ولا أتصور أن التشديد على بعض القيم العامة من قبيل التسامح وحوار الحضارات تدخل ضمن نطاق المسائل الخلافية إذا ما علمنا أن هذه الأبعاد غدت مكينة في خطاب الجامعة بل أفردتها الجامعة بمهمة خاصة في أعلى مستوياتها أطلقت عليها مهمة حوار الحضارات، كما لا أتصور أن قضية إدانة العنف والارهاب في حد ذاته كانت سببا في تصرم القمة،

لأن ثمة إجماعا عربيا على نحو ما عبرت عنه قمة بيروت والقمم السابقة، وعلى نحو ما صدر عن القمم الإسلامية السابقة، في إدانة الأعمال الإرهاببية دون هوادة، ولكن مع التشديد على التمييز الواضح بين مقاومة الاحتلال والإرهاب. فكيف يكون الإصرار التونسي على إدانة التطرف والتعصب والعنف مبعثا للخلاف إلى الحد الذي يستدعي إلغاء أشغال القمة، اللهم أن يكون للأمر صلة بما يجري في الساحة الفلسطينية من مقاومة مصنفة أمريكيا وبالتابعبية لدى بعض الدول العربية الموصوفة أمريكيا واسرائيليا «بالمعتدلة» ضمن دائرة الارهاب، ومما يعزز هذا الاحتمال ما تواردته بعض وكالات الأنباء وأكدته جهات فلسطينية عديدة عن رفض تونس استقبال بعض ممثلي الفصائل الفلسطينية، على نحو ما درج عليه العرب في العديد من القمم السابقة للتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والحق في تحرير الأرض. أما ردود الفعل إزاء هذا الحدث فقد تفاوتت وتباينت من جهة إلى أخرى، وتوزع ذلك بين موقف الأمين العام عمرو موسى الذي ظهر متجهما ومنتقع الوجه بعدما كان يؤكد لوفود الصحافيين قبل ساعات فقط من القرار التونسي أن اشغال وزراء الخارجية العرب تسير في الوجهة السليمة، وليس هناك تفكير أصلا في تأجيل القمة فإذا به يفاجأ بقرار «سيادي» لا قدرة له على رده، في حين اعربت اسرائيل عن ارتياحها لتأجيل أشغال القمة معتبرة الأمر دليلا كافيا على أن العالم العربي «يتغير» (أي يسير نحو الوجهة المطلوبة إسرائيليا) على نحو ما صرح أحد المسؤولين الاسرائيليين لوكالة الأنباء الفرنسية، أما وزير الخارجية الأمريكي كولون باول فقد نفى أن تكون بلاده قد مارست ضغوطا على تونس لإلغاء القمة العربية (والنفي في لغة الديبلوماسية الأمريكية قد يعني الاثبات)، هذا دون أن نتحدث عن صدمة الشارع العربي، فهو وإن كان أميل إلى التبرم والتسخط على النظام السياسي العربي، إلا أنه مع ذلك كان ينتظر حدا أدنى من التضامن في مواجهة الرياح العاتية التي تعصف بالبيت العربي من كل جانب.

هناك حقيقة ماثلة للعيان ما زالت تلقي بظلالها الكثيفة وتداعياتها الثقيلة على الجسم السياسي العربي ـ المختل من أصله ـ وهي آخذة في التفاقم منذ حرب الخليج الثانية سنة91. هذه الحقيقة هي كون بعض الدول العربية الصغرى المتقوية بالخارج والطامحة في لعب دور يفوق حجمها وإمكاناتها لم تعد مقتنعة بالاندراج ضمن نسيج العمل العربي المشترك، بل هي لم تعد تتورع عن ممارسة دور تخريبي لقومات التضامن العربي ولو في حده الأدنى، متخفية وراء أزمات وأعطاب النظام السياسي العربي ، والغريب في الأمر أن هذا الموقف لم يعد قاصرا على بعض الحكومات بل يتعداهم إلى طائفة من المثقفين العرب الذين أضحوا يستعذبون ويطربون لكل عثرة أو محطة من محطات الفشل العربي، وكأن لسان حالهم يقول «أو لم نقل لكم إن نظريتنا حول أزمة النظام العربي صحيحة».

طبعا لا أحد يمكنه أن يدافع عن أداء النظام السياسي العربي وأن يقول إن الوضع العربي على ما يرام، أو هو يلبي الحد الأدنى من مطامح ومطالب العرب، ولكن ثمة فرق شاسع بين من ينتقد النظام السياسي العربي من موقع الوجع والحرص على الارتقاء بعرى التكامل والتضامن العربيين، وبين من يريد أن يجعل من مشاكل النظام السياسي العربي مسوغا للمزيد من إرباكه وتوهينه، ثم للتفلت من الالتزامات العربية.

من الواضح أن آلية الوفاقات والترضيات لم تعد قادرة على تحريك العمل العربي المشترك ولا هي قادرة على تفعيل أداء الجامعة العربية المتعثرة، كما أن الاستمرار على هذا المنوال معناه تغليب هاجس التضامن والوحدة الشكليين على حساب فاعلية الأداء والانجاز ومن ثم تأبيد حالة العجز والعطالة إلى أجل غير محدد.

إنه لم يعد أمر مقبولا ولا مفهوما أن يسلم العرب مصيرهم ومصير أجيالهم القادمة لحسابات انعزالية قطرية، وفي بعض الحالات لمصالح شخصية لهذا الحاكم العربي أو ذاك على حساب مصالح الكيان العربي العام، ليس سرا أن نقول بأن كون بعض البلدان العربية قد أضحت قلوبها وسيوفها أمضى وأشد على الجوار العربي مما هي على الخارج، وربما تتمنى زوال مؤسسات العمل العربي المشترك اليوم قبل غد، وبعضها الآخر انتدب نفسه مع سابقية الاضمار والترصد لتمزيق ما تبقى من عرى التضامن العربي، وبعضها الآخر استدار على كعبيه وانتقل بين عشية وضحاها من داعية الوحدة العربية إلى داعية «الواقعية والاعتدال على القالب الأمريكي»، وهذه الدول لم تعد تجد معها سياسة الترضيات وديبلوماسية «التبويس» على نحو ما هو جار اليوم، وعلى هذا الأساس يجب أن تترك هذه الدول منفردة في مواجه مصيرها وتنقية «شوكها بيديها» على ما يقول مشايعوها ومنظروها، وأن تترك عارية في مواجهة ضغوطات شعبها وضغوط الشارع العربي المطالب بتقوية عرى التكامل والتضامن لا مزيد التفتت والتذرر.

إن المساواة الشكلية القانونية بين الدول الأعضاء في الجامعة لا يجب أن تكون حاجبا عن فهم قوانين الجغرافيا السياسية ووقائع الأمور على الأرض، وفي مقدمة هذه القوانين هي كون الدول تتفاوت من جهة النفوذ والتأثير الاقليمي والدولي بتفاوت أحجامها وامكاناتها وأدوارها التاريخية، وقد فهم الأوروبيون هذا الامر جيدا فانعكس ذلك على وتيرة العمل الأوروبي الذي أضحى يشتغل بقاطرتين متفاوتتين، قاطرة أولى تحركها النواة الألمانية الفرنسية وفي بعض الأحيان تنضم إليها بريطانيا واسبانيا وايطاليا، وقاطرة ثانية تسير بوتيرة بطيئة ولكنها تضم ما تبقى من الدول الأوروبية الأغضاء، وهذا معناه في الحالة العربية أن تأخذ الأقطار العربية ألأكثر تأثيرا والتزاما بالصف العربي، والاكبر حجما، أن تأخذ على عاتقها مسؤولية قيادة العمل العربي المشترك، ثم تستجمع من حولها من له الاستعداد الكافي والجاد للانخراط في مؤسسات العمل العربي المشترك، ولعل نواة ثلاثية مصرية سورية سعودية ثم تنضاف إليها اليمن والسودان والجزائر والمغرب كفيلة بإعادة الحياة للشرايين المتصلبة للجسم العربي، على ان تبقى الجامعة العربية المظلة العامة التي يستظل بها ما تبقى من الأقطار العربية التي ما زال لديها الحد الأدنى من الالتزام بمقتضيات العمل الجماعي، أما من يراهن على الأفساد والتخريب فغيابه وحتى شطبه تماما من العضوية يظل أفضل من بقائه الشكلي ، ولعل مسارعة مصر بالتعبير عن استعدادها لاستضافة القمة أواسط شهر أبريل لقطع الطريق على من ساهم في افشال قمة تونس تعد خطوة في الاتجاه الصحيح.

* باحث في الفكر السياسي بجامعة وستمنستر ـ لندن