أوروبا الكوارث والمصالح.. عيون مغمضة .. وأخرى مفتوحة

TT

عندما يفكر البيروقراطي في قتل موضوع ما فإنه يكوِّن له «لجنة خاصة». وعندما يقرر رؤساء الدول فعل الأمر نفسه فإنهم يدعون إلى «قمة استثنائية». وهذا هو بالضبط ما فعله رؤساء الاتحاد الأوروبي عندما ووجهوا بتحديد دورهم في الحرب العالمية ضد الإرهاب. وقد فشل مؤتمر وزاري الشهر الماضي في الوصول إلى استراتيجية محددة، وحوَّل القضية كلها إلى القمة المقبلة. ولكن لم تكن هناك أية ضمانات عن أن القمة نفسها لن تحول الموضوع إلى جهة ما. وقد دعا بعض الزعماء من أعضاء الاتحاد مسبقا إلى تحويل الموضوع إلى قمة أخرى، هي في تلك الحالة قمة السبعة الكبار من الدول الصناعية، والمقرر عقدها في الولايات المتحدة في يونيو (حزيران) المقبل.

أولئك الذين يحاولون نقل المسؤولية إلى آخرين يتمتعون بذاكرة ضعيفة، ولذلك دعونا نذكرهم بأن قمة السبعة ناقشت قضية الإرهاب في ثمان من قممها منذ عام 1976. وقد أجازت قمة هاليفاكس بكندا، عام 1995، ما اعتبر تحليلا عميقا للمخاطر التي يمثلها الإرهاب العالمي للاستقرار في كل أرجاء الكوكب. وتوصلت القمة التالية التي عقدت في ليون بفرنسا، إلى حزمة من الإجراءات لمكافحة الإرهاب الذي اعتبر «خطرا واضحا ومحددا للقانون والنظام الدوليين».

ومع ذلك، فإن 11 فقط من ضمن 44 إجراء أجيزت في قمة ليون جرى استيعابها في القوانين الوطنية للدول المعنية. وهناك ثلاثة اسباب جعلت الدول الكبرى لا تتعامل مع الحرب ضد الإرهاب باعتبارها حربا حقيقية.

السبب الأول هو أن كثيرا من القادة الغربيين لم يحرروا أنفسهم بعد من الفلسفة التي يمثلها القول المأثور: إن ما يعتبره البعض إرهابا يعتبره آخرون حربا للتحرير. وهذا يؤدي إلى تقسيم الحركات الإرهابية إلى حركات خيرة وأخرى شريرة. وعلى سبيل المثال، فإن الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تجد صعوبة في التعامل مع الجيش الجمهوري الإيرلندي على أساس أنه منظمة شريرة، ولكن عندما يتعلق الأمر بمنظمات إرهابية تستخدم الأراضي البريطانية لتنظيم هجمات على بلدان أخرى، فإن مفهوم حرب التحرير سرعان ما يقفز إلى المقدمة. وحتى هجمات 11 سبتمبر (ايلول) على نيويورك وواشنطن، كان زوار حديقة ريجنت بارك، بلندن، يرون رجالا ملتحين يجمعون المال للمنظمات الإرهابية في أكثر من ستة أقطار إسلامية من ضمنها مصر، بينما كانت الشرطة البريطانية تشاهد ذلك وكأن الأمر لا يعنيها في كثير أو قليل.

ومن الجانب الآخر، فإن الفرنسيين لن يحدث حتى في الأحلام أن صنفوا العصابات الإرهابية في كورسيكا باعتبارها مقاتلة من أجل الحرية، ولكنهم كانوا ينظرون إلى الجهة الأخرى وهم يرون الإرهابيين يستخدمون الأراضي الفرنسية كقاعدة لتخطيط وتمويل المذابح الجماعية بالجزائر. وحتى عندما ارتكبت الأعمال الإرهابية في الأراضي الفرنسية، اختارت السلطات ألا تفعل شيئا ما دامت هذه الأفعال لا تستهدف مواطنين فرنسيين. «وعلى سبيل المثال، فإنه في الفترة بين عامي 1979 و1997 قتل نظام الخميني 17 من معارضيه في فرنسا، ولم يفعل الفرنسيون شيئا للقبض على الجناة».

وفي بعض الأحيان، تعبر النخب الغربية عن إعجابها المدمر ببعض المنظمات الإرهابية باستخدام مصطلح «حركة المقاومة». بل إن بعض وسائل الإعلام الأوروبية منعت استخدام مصطلح «إرهابية» كصفة لمنظمات تقتل الناس من أجل هذه القضية أو تلك، وتستبدله بلفظة مقاتلة أو راديكالية، أو إذا استعارت مصطلحا من نعوم شومسكي، دعتها التنظيمات «ذات القاعدة الشعبية».

ولم يلاحظ إلا القليلون أن خوزيه رودريغز ثاباتيرو، زعيم حزب العمال الاشتراكي الإسباني، كان يستخدم مصطلح «المقاومة العربية» خلال حملته الانتخابية، حتى يتفادى كلمة «القاعدة» التي كان يستخدمها منافسه، رئيس الوزراء السابق خوزيه ماريا أثنار.

السبب الثاني الذي يجعل كثيرا من الدول الغربية تتفادى خوض الحرب ضد الإرهاب بالجدية المطلوبة، هو محاولة تفادي وقوع هجمات إرهابية على أراضيها. وكان هذا ما فعلته فرنسا في السبعينات لتتفادى هجمات المجموعات الفلسطينية التي تخصصت حينها في اختطاف الطائرات المدنية. «وقد صارت الطائرات الفرنسية الأكثر أمانا لفترة من الزمن». وفي الثمانينات عندما كان الخمينيون يمارسون سياسة الاحتفاظ بالرهائن الغربيين، حصل الألمان على عفو من طهران. وفي حين أمر الملالي بأخذ الرهائن من 21 دولة، من الأميركيين إلى الكوريين الجنوبيين، مرورا بالبريطانيين والفرنسيين، فإن الألمان جرى إعفاؤهم. «ولمكافأة الملالي على ذلك، دعت السلطات الألمانية وزير الاستخبارات والأمن علي فلاحيان، لزيارة ألمانيا الاتحادية عام 1991»

وقد نجحت حيلة «المخارجة» في إقناع ملايين الناخبين الإسبان للتحول من تأييد حزب الشعب الحاكم إلى التصويت لحزب العمال الاشتراكي الإسباني. وقد اقنع كثير من الإسبان أنفسهم بأنهم إذا سحبوا قواتهم من العراق فإنهم سيضمنون عدم وقوع هجمات إرهابية بأراضيهم في المستقبل.

والسبب الثالث الذي يقعد الدول الأوروبية عن اتخاذ موقف حازم ضد الإرهاب، هو أن نخبهم تعتقد أن الإرهابيين يمكن إقناعهم بالإقلاع عن ارهابهم من خلال الحوار والتفاوض.

ومثل هذا الخداع الذاتي ممكن تماما في حالة السياسيين والمفكرين الذين نشأوا في ظل نظم ديمقراطية. ولكن عندما يتعلق الأمر بمواجهة الإرهاب، فإن هذا الخداع يمكن أن يضعف الإرادة التي لا يمكن تحقيق النصر على الإرهاب بدونها.

وحتى في أحسن الحالات، فإن التفاوض مع الإرهابيين لا يمكن أن يحقق نتائج مضمونة. فقد دخل الجيش الجمهوري الإيرلندي في اتفاقية لاقتسام السلطة مع الحكومة البريطانية والأحزاب الديمقراطية في إيرلندا الشمالية، ولكنه ظل حريصا جدا على عدم التخلص من أسلحته. وبمعنى آخر، فإنه سيظل ملتزما بالسياسة العادية طالما رأى أن ذلك يخدم أغراضه، ليتخلى عنها في الوقت الذي يناسبه. وفي بعض الأحيان فإن الوهم بأن الإرهابيين يمكن دمجهم في العملية السياسية العادية، يقود إلى نتائج عبثية كليا. وعلى سبيل المثال هناك من يدعون «إلى نوع ما من أنواع التفاوض مع بقايا طالبان» أو حتى ما تبقى من القاعدة. وما لا يعرفه هؤلاء الباحثون عن إبرام الصفقات، هو أن المنظمات الإرهابية على شاكلة القاعدة وطالبان، لا تؤمن بأنصاف الحلول وأساليب الأخذ والعطاء

. بل هم لا يرضون حتى باستسلام غير مشروط من جانب من يعتبرونهم أعداءهم. بل هم يريدون أن يتحول أولئك الأعداء إلى روبوتات يمكن استغلالها بالطريقة التي يحبذها الملالي والشيوخ. وقد اتضح ذلك في أفغانستان عام 1998، عندما استسلم الهزارة جات بإقليمي باميان وميدان، وسعوا إلى التفاوض مع طالبان للوصول إلى اتفاقية سلام. ولكن استسلامهم لم يكن كافيا. فقد كانت حركة طالبان تريد من الهزارة جات ان يتخلوا عن مذهبهم ويتبنوا مذهب الملا عمر وأسامة بن لادن. وعندما رفض الهزارا ذلك ذبحوا بالآلاف.

إن نجاح الحرب العالمية ضد الإرهاب يقتضي أن يقتنع كل أؤلئك الذين يخوضونها بأنه لا يوجد إرهاب خيّر وأن النبل الواقعي أو المتخيل لهدف من الأهداف لا يبرر قتل الناس الابرياء. هل يعني هذا أن النضال المسلح ضد الطغاة أصبح من مخلفات الماضي؟

لا، بالطبع لا. فالنضال المسلح يلتزم بقوانين الحرب بينما لا يعترف الإرهاب بأي قانون من القوانين. كما أن النضال المسلح يمكن تبريره إذا كانت أهدافه لا تؤثر على حريات الناس وكرامتهم. ولذلك فإن النضال المسلح لفرض نظام فاش على شاكلة طالبان على شعب بأكمله لا يمكن تبريره مطلقا.

إن على الديمقراطيات الكبرى أن تحرر نفسها من الأوهام حول إمكانية التملص من الحرب ضد الإرهاب، حتى يتسنى لها أن تعبئ بقية المجتمع الدولي ضد هذا الخطر الماحق بالنسبة لنا جميعا.