انتخابات اسبانيا .. وجه الملامح القاسية

TT

وقعت نتائج الانتخابات الإسبانية وقوع الصاعقة في كثير من العواصم الغربية، التي كانت تتوقع انتصار الحزب الشعبي الحاكم في البلد منذ عام 1996 . والحق يُقال، إن الشعب الإسباني نفسه تلقى خبر هزيمة الحزب الشعبي على أيدي الاشتراكيين بالدهشة، إذ كانت الإحصاءات واستطلاعات الرأي، التي أجريت قبل الانتخابات، قد أجمعت على فوز الحكومة، وإن كانت تختلف في ما بينها بشأن فارق الأصوات. إلا أن انفجارات 11 مارس (آذار) الماضي، جاءت لتقلب كل هذه التوقعات رأساً على عقب، وانعكس هذا الانقلاب المفاجئ بالذات على ردود فعل الحكومات الغربية التي لمح بعضها إلى أن هذه النتيجة ربما تمثل انتصاراً مدوياً للإرهاب القادر على تغيير المسيرة الانتخابية. بطبيعة الحال، اصدر كل من الحزبين الرئيسيين في إسبانيا، وجهات نظر مختلفة لدى تقييمهما للعملية الإرهابية الوحشية في مدريد، وتأثيرها في نفسية الناخبين. كان سجلاً باهراً لا غبار عليه. بالتالي، لا يصعب على المراقب أن يلمس قدراً من المرارة والغضب المكتوم عند ممثلي الحكومة والحزب الشعبي إزاء ردود فعل المواطنين الإسبان، الذين أطاحوا بهم بعد ثماني سنوات من الحكم.

بصرف النظر عما إذا كانت «قطارات الموت» قد أثرت تأثيراً استثنائياً في الناخبين، فإن مفاجأة الاستحقاق التشريعي الإسباني، أفرزت عددا من الدروس لا بد من الاهتمام بها، وإن كانت بعض الجهات الداخلية والخارجية عازمة على إخفائها.

الدرس الأول هو أن السياسة الخارجية ليست قليلة الشأن بالنسبة للمواطنين، مما يعني ان الاقتصاد ليس دائما بالضرورة الشغل الشاغل والوحيد. فقد كان الحزب الشعبي يعتقد أن ملف العراق ومشاركة إسبانيا غير المشروطة في الحملة الأمريكية أصبح منسياً لا يفطن إليه أحد.

الدرس الثاني مفاده ان الحزب الشعبي، لا سيما رئيسه خوسي ماريا اثنار، عود المواطن الاسباني على اسلوب قيادي جديد لم يخلُ من الغرور. نعم، ان الرجل تحول بعد حصوله على أكثرية الأصوات المطلقة في عام 2000، إلى رئيس وزراء متسلط ينفرد بالرأي داخل الحزب، وخارجه يستخف بالمعارضة والرأي العام، ويكيل التهمة تلو الاخرى الى الاحزاب القومية الصغيرة، لا سيما في إقليمي الباسك وكتالونيا، وهما منطقتان قبلتا بالتحفظ والاستنكار محاولة اليمين الإسباني فرض مفهومه الخاص بالتركيب الإقليمي والسياسي والوطني للدولة.

وعلى من يجهل الواقع الإقليمي في إسبانيا، أن يعلم أن مسألة القوميات حساسة جدا. ان شخصية اثنار الغاضب على كل شيء العاجز عن استيعاب الانتقادات، كانت كافية لإثارة امتعاض شرائح واسعة من المجتمع الإسباني، خاصة بعد أن ضرب بمطالب الرأي العام بشأن العراق عرض الحائط وتنكر له في قمة جزر الآزور المنعقدة في مارس (آذار) الماضي، برفقة جورج بوش وتوني بلير.

اما الدرس الثالث، ويحسن بالرئيسين جورج بوش وتوني بلير أن يستنتجا العبر منه، فإنه يشير إلى عواقب التلاعب بالحقائق وإخفاء المعلومات عن الرأي العام، وتسويق قرارات صعبة الهضم، كضرب العراق بدعوى أسلحة الدمار الشامل، أو القول بأن الأمم المتحدة أباحت الهجوم (لم تأل حكومة مدريد جهدا من أجل إقناع الرأي العام الإسباني بأن النظام العراقي كان يمتلك أسلحة دمار شامل لأنه لم يثبت أنه دمره، في حين ان الحكومة نفسها شددت مراراً على أن الأمم المتحدة نفسها قد أعطت الضوء الأخضر للحرب). وقد لعبت وسائل الإعلام العامة والخاصة المقربة من الحزب الشعبي دوراً مخزياً في تكريس سياسة إعلامية مبتورة، هدفها ترجيح وجهات نظر الحكومة، والتستر على كل ما من شأنه الإساءة إلى استراتيجيتها، ووصلت مساعي التلاعب هذه في الإذاعة والتلفزيون العام حداً بعيداً، بحيث أطلقت مجموعة من عمالها حملة منظمة للاحتجاج على ما وصفوه بـ«تدخل سافر للحكومة في حرية التعبير».

لقد أخفق الحزب الشعبي في اضفاء المصداقية على السياسة الخارجية، والآن، ويا للفاجعة، عادت الأعمال الإرهابية لتذكرنا بأن الانخراط في حزب غير مرغوب فيه شعبياً لا بد أن يطبع آجلاً أم عاجلاً العلاقة التي تربط الحاكم المنتخب بالمحكوم الناخب.

* كاتب ومستعرب إسباني