شارون .. بين النجاح السطحي والفشل العميق

TT

لم تكن عملية اغتيال الشيخ احمد ياسين، ولن تكون واحدة من المآثر العسكرية، التي كانت اسرائيل تحرص على تصديرها، كإنجازات خارقة ومبهرة. فالشيخ الشهيد، كان في سباق مع أحدث ما بلغته التقنية الحربية. سباق بين عربة ذات عجلات يدوية، وطائرات الأباتشي المزودة بأدق الاجهزة وأفتك ادوات القتل. بديهي والحالة هذه، ان استشهاد الشيخ يبدو مؤكدا، وان الجهد المبذول في عملية من هذا النوع لن يتعدى اتخاذ القرار السياسي والضغط على الازرار. ولقد لفتت نظري، وانا اتابع تفاعلات عملية الاغتيال، تلك المفارقة التي تعكس ما يشبه حالة الانفصام الذاتي، من خلال خلاصة الاستطلاعات الاولية التي اجريت في اسرائيل، حول العملية وتداعياتها: 60 في المائة يؤيدونها و80 في المائة يخافون من ردود الفعل عليها.

ان خلاصة كهذه، تعكس ببساطة ذات الاختلاط بين الفرح التلقائي لغياب شيخ كرسته الآلة الاعلامية في اذهان الاسرائيليين كزعيم للارهاب، وبين الخوف المحسوب، الذي لا بد ان يساور نفوس الاسرائيليين جراء توقع رد الفعل. لقد حصد شارون، جائزة الستين في المائة العفوية والسطحية، غير انه مطالب ـ لو كان قائدا مسؤولا ـ بالإصغاء لنبض الثمانين في المائة المليء بالقلق والخوف. واذا كانت الاستطلاعات تحتمل درجة بسيطة من الخطأ، الا ان ما يبدو أكثر دقة منها، هو ما يجري في الشارع الاسرائيلي حيث تراجعت الحياة الى حدودها الدنيا ـ فلا الحافلات مكتظة بالركاب، ولا مراكز التسوق طافحة بالزبائن، ولا مرح الايام الدافئة المألوف عن المدن الكبيرة، يجد مكانا في النفوس وفي السلوك. اذن.. بأي معيار يقيس الإسرائيليون نجاح أو فشل شارون، وبأي منطق؟ يعتبر شارون نفسه رجل الانجازات الأمنية والسياسية في اسرائيل؟ ان الاجابة عن هذا السؤال، لن تكون باللجوء إلى استطلاع آخر ستزيدنا نتائجه بلبلة واستعصاءً على الفهم.. وانما يكون بدراسة سياسة شارون ووسائله ورهاناته، ومن ثم قياس النتائج الواقعية لهذه السياسة ومقارنتها بإمكانية تحقيق الرهانات. ان شارون، اعلن أخيرا، ما وصفه بالسياسة أحادية الجانب.

بالانفصال التدريجي عن الفلسطينيين، وتحت هذا العنوان العام، يمكن التعرف على مغزى الجدار الفاصل أمنيا واستراتيجيا، وكذلك الافصاح عن الاستعداد للانسحاب من غزة، ثم القيام بترتيبات تعزز السيطرة على الضفة، وبعد ذلك يقول للفلسطينيين والعالم.. «عالجوا ما وراء الجدار. وما بقي من ارض فائضة عن حاجة التجمعات الاستيطانية المنتشرة في جميع ارجاء الضفة»!!

إن سياسة شارون هذه تعني عمليا، تغيير قواعد اللعبة الشرق اوسطية على نحو شامل، اما الوسائل التي يلجأ إليها لإرغام الجميع على التكيف معها، فهي وسائل عسكرية لا علاقة لها بآليات العمل المألوفة على المسار السياسي. ان اليقين بفشل هذه السياسة، يتولد من ضعف ادواتها، والخلل الظاهر في تقدير مواقف القوى الضرورية لإنجاحها او افشالها.

وهنا لا بد من الدخول الى التفاصيل مع تحديد واضح لهذه القوى. فلسطينيا: اية قيادة فلسطينية يريدها شارون كي تكون شريكة في الحل الذي يطرحه؟ لقد اجاب شارون عن هذا السؤال، بالسلوك قبل الكلام، فلم يعجبه ابو مازن لتفاهمه مع حماس على الهدنة فقام بخنق حكومته. ولم تعجبه استعدادات احمد ياسين للمرونة والحلول السياسية، فقام باغتياله. إذن من يريد بالضبط؟ بصرف النظر عن مواصفاته الخاصة للقيادة التي يريدها او يقبل التعامل معها، فإن ما يتعين معرفته والتأكد منه، هو استحالة النجاح في مسعى كهذا، لسبب في غاية البساطة، وهو ان الفلسطينيين لن يقبلوا بقيادة يعينها شارون، مثلما لن تكون اية خيارات شارونية بشأن الفلسطينيين نافعة في تحقيق شيء على الارض. مصريا: لقد ذهب شارون ـ على قدميه ـ طالبا تعاونا مصريا في مسألة الانسحاب المحتمل من غزة.

وقد عرضت مصر شروطا ضرورية للقبول، وكلها شروط تجسد سياسة متكاملة تبدأ بملء ما يسمى الفراغ في غزة، لتصل اخيرا الى الحل النهائي وفق خطة خريطة الطريق، وبديهي ان الحل النهائي سيكون التخلي عن جميع الضفة بما فيها القدس. اذن كيف يستطيع شارون منطقيا، اعادة طلب التعاون مع مصر، والرهان على تسهيلاتها المنشودة، بينما لم يطبق اي شرط من شروطها؟ أميركيا: بمراقبة الحركة الاميركية، عقب اعلان شارون عن سياسته أحادية الجانب، نجد ان الادارة المنهمكة في موسم الانتخابات، تحاول الوجود على ارض الازمة عبر مبعوثيها الثلاثة، بيرنز وهيدلي واليوت.

وتحاول كذلك، إدخال جمل شارون الضخم، من ثقب الابرة الضيق لخريطة الطريق، ان الجهد الاميركي والحالة هذه لن يفضي الى نتائج ملموسة، وبالتالي فإن انتظار ادارة جديدة او متجددة في واشنطن، سيكون هو الخيار الوحيد والموضوعي المتاح لمن يراقبون جموح شارون ومغامراته شديدة المجازفة والتهور! وحين يتركز الدور الاميركي ـ الآن ـ على مجرد الوجود على ارض الأزمة، لإدارتها ومنعها من بلوغ الانفجار الشامل.. فذلك لن يسجل مزايا مطلقة لشارون، الحريص على أن يضع كل الإمكانات الأميركية في جيبه، وان يحصل على دعم مطلق لكل ما يفعل، حتى لو ظهر ان ما يفعل مضر تماما بالمصالح الاميركية ذاتها.

ان محصلة سياسة شارون على كل الصعد تبدو من الآن والى أمد بعيد عديمة الجدوى في تحقيق خلاصات سياسية حاسمة تحقق أهدافه، غير أنها وإلى أن تجد كوابح فعالة، ستحرق الكثير في طريقها، وستسيل الكثير الكثير من الدماء، وسترفع نسبة الخائفين في إسرائيل، واليائسين من السلام والاستقرار في العالم بأسره.

* وزير الاعلام الفلسطيني السابق