لو أكمل الشيخ ياسين خطوته لصار غاندي الشرق الأوسط

TT

العنف دورة مجنونة لا تأتي إلا بالعنف، والعنف دورة تزداد اتساعا والتهابا، والعنف لا يحل مشكلة بل يخلق مشاكل. فهذه ثلاث حقائق أساسية في سيكولوجية البشر. ومصرع الشيخ احمد ياسين يندرج ضمن هذا القانون. ومن يأتي بعده يجب أن يفهم هذا القانون. ومن يتغافل عن سنن الله فإن قانون الله لا يغفل عنه. وما ربك بظلام للعبيد.

واليوم كل من العرب واليهود مرضى بالعنف. وشارون وبن لادن وبوش من معدن واحد، يرون أن القتل أفضل الحلول، مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بالتخلص منه وليس تخليصه من المرض؟

وفي كتاب (البؤساء) تبدأ القصة من سرقة رغيف خبز من اجل إطعام أطفال جياع، لتنتهي في السجن لتسع عشرة سنة. هكذا كتب (فيكتور هوغو) روايته العالمية عن (جان فالجان). ويقول، طالما كان في العالم بؤس وشقاء وجهل فيجب أن تكتب مثل هذه الروايات. والذي ثبت أن السجن لم يخرج مواطنا صالحاً بل مجرما عتيا، بسبب مسلسل التمرد والعقوبة الذي كان يقوده الشرطي (جافير) حرصا على تنفيذ القانون، والذي حرر جان فالجان من الأفكار الشريرة السوداء لم يكن السجن أو القانون، بل قس كافأ سرقته بالصفح عنه. وأفضل ما يؤخذ من الإنسان ليس الإكراه بل الإيمان. والقس رأى المنظر خارج إطار القانون والعقوبة. ومن ينبوع الحب والمغفرة ولد إنسان آخر هو العمدة (مادلين) الذي أحيا مدينة كاملة.

وعلى غرار ذلك كتب ديستوفيسكي روايته (الجريمة والعقاب)، ليقول لنا إن (راسكولنكوف) هو مجرم في داخل صدر كل منا، وأن المجتمع هو الذي يجعل البشر مرضى بالعنف والجريمة. وهذه الروايات تنفع في شرح الأبعاد السيكولوجية لآلية العنف وحدوثه.

وفي يوم 22 مارس 2004، قتل الشيخ ياسين زعيم حركة حماس في دورة العنف الانتحارية، وهو شهيد عند أتباعه، ولكنه في نظر من قتله مجرما مريدا. ونحن يصعب علينا فهم الأشياء ما لم نرها بمنظور مختلف. ولو ولد أحدنا من رحم امرأة يهودية في القدس لرأى في الرجل زعيما للقتل، ولكنه عند قومه والعرب زعيم روحي.

وإذا كان الفلسطينيون يبكون ياسين فاليهود عندهم عرس.

والقرآن يتكلم عن متناقضات الوجود، أنه في اللحظة الواحدة أضحك وأبكى، وأنه أمات وأحيا. وسبحان من جمع الأضداد. وفي يوم بكى اليهود على حائط المبكى. وفي الحرب العالمية الثانية صب عليهم العذاب صبا وتبرأ منهم كل واحد. وكل أمة لها يوم محزن.

والشيخ ياسين مشى نصف خطوة باتجاه الحل الصحيح، حينما ردد قول ابن آدم من القرآن (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)، فقال إنه لن يمد يده بالقتل للسلطة الفلسطينية. والرجل كان شخصية كارزمية، ولو أكمل الحكمة القرآنية فخاض صراعه مع اليهود بنفس الطريقة، لكان غاندي الشرق الأوسط. والطريق مفتوح لمن جاء بعده في إعلان طلاق العنف. ولكن الشيخ ياسين رأى حل الأمور بطريقة الثورة الفرنسية وليس بالطريقة النبوية. والخميني من قبل، كان بإمكانه أن يفعل مع صدام ما فعله مع الشاه. وصدام أحقر من الشاه. ولكن هذا يعني تغيير إحداثيات التفكير، وإدخال رياضيات تفاضل وتكامل في عملية تغيير النفوس، وتغيير ملوحة التربة الثقافية المشبعة الدم.

وخيار المقاومة السلمية ما زال مفتوحاً للقيادة الجديدة من الفلسطينيين، أن يتبنوا طريق اللاعنف فيكفوا عن الدماء ومن طرف واحدّ؛ كما جاء في قصة ابن آدم الأول. والقرآن يقول عن القاتل إنه كان من (الخاسرين). ويعتبر من لم يقتل أنه نجح مرتين في الحياة والممات. فقد تقبل قربانه ولم يتقبل من الآخر. ومات فلم يدخل في مذهب القاتلين الظالمين. وكان مصرعه السلمي سببا في تغيير موقف القاتل فأصبح من (النادمين)؟. وكما سقراط يقول، إن كان لي الخيار بين الظالمين والمظلومين فأحب إلي أن أكون من الفريق الثاني. وهذا أمر سيكولوجي له نتائج في تحفيز الوعي واللاوعي لنصرة المظلوم.

ومع مقتل ياسين يجب أن يقف الفلسطينيون فيفكروا في وقف العنف ومن طرف واحد كما فعل ابن آدم الأول. وليس أعظم من السلام الذي يكسر حلقة العنف المجنونة.

ويجب أن نستوعب أن إسرائيل لم تكن لتوجد لولا المرض العربي، وهو أمر لا يعترف به العرب. وأنه لولا انهيار الجهاز المناعي العربي ما انفجر الالتهاب الصهيوني. ولولا وجود المستنقعات ما تكاثر البعوض وانتشرت الأمراض. وفي الوقت الذي يتعافى فيه العرب فلن تزيد إسرائيل عن فورموزا الشرق الأوسط.

ولكن أن تقطع أنف أحدهم بالمقص وبدون تخدير أسهل من استيعاب هذه الحقيقة؟ وكل ما نكتب ليس له قيمة ومن يقاومه أكثر ممن يناصره. وهذا الأسلوب إنساني وأخلاقي واقتصادي ويمكن به قهر إسرائيل وإخراج أميركا.

ولكن الشعوب تتعلم عادة بالعذاب أكثر من الكتابات، فيزاد العذاب جرعة جرعة حتى ترجع أو تموت فتبتلعها قوى أفضل منها.

واليوم تنبه الرأي العام العالمي إلى عنف إسرائيل وظلمها، وبدأت أسهمها في التناقص فيجب الرهان على الرأي العام العالمي وإعلان نبذ العنف، ولكن هذا يحتاج إلى وعي مختلف وأرضية معرفية متباينة.

ويجب أن نعلم أن ولادة إسرائيل تمت على يد قابلة أوربية. ومن أنجبها كان (الهولوكوست Holocaust) و(الحل النهائي Endloesung) النازي. ويجب أن يستوعب العرب حقيقة إسرائيل، وأنها امتداد الحضارة الغربية، وأنها ديمقراطية من الداخل وعنصرية من الخارج، وأنهم أشداء على الفلسطينيين رحماء بينهم. وأن الأوربيين أوجدوها لتبقى. وأن الأوربيين حلوا الهولوكوست على حساب العرب.

وأنهم وضعوا العرب واليهود في قدر تغلي بالاثنين، فأرسلوا اليهود إلى هولوكوست جديد. وأن إسرائيل محكوم عليها بالفناء. وأنها ولدت بأخطاء كروموسومية غير قابلة للحياة والاستمرار.

وهناك من ينصح الفلسطينيين باستخدام أسلوب حزب الله في المقاومة المسلحة، وهو ما تورطت به الانتفاضة، وهو فهم مغلوط لواقعات التاريخ والواقع؛ فجنوب لبنان ليس أرض الميعاد. وبضعة جنود في الشريط الحدودي ليس مثل ستة ملايين يهودي في إسرائيل. والجزائر قدمت مليون شهيد لطرد الفرنسيين ولكن لم تولد حتى اليوم. وينطبق نفس الكلام على أفغانستان والصومال. وطرد الأجنبي سهل وبناء نموذج حضاري هو التحدي الأعظم. وعلى العراق اجتمع الاحتلال مع بقايا الاستبداد مثل الايدز والسل. وينتشر الآن على صفحات الإنترنت من موقع إسلام أون لاين نص رسالة موهومة موجهة من الشيخ ياسين إلى حكام العرب، يستنجدهم لنصرة فلسطين وما من مجيب. وشهد لهذا عدم قدرة العرب على الاجتماع في تونس في ربيع 2004، فكيف بالعلاج؟