زوايا تونسية (6) ـ المرافق يطرد أبو زيد

TT

ثمة تونسي جليل ابقي خارج القمة العربية كما ابقي خارج العقل العربي. مع انني اراه في صفحات الكتب الغربية وفي صحون الدور والقصور وبيوت الحكم. وكنت اتوقع ان اراه هنا. وان ارى الدول تناقش فكره لا الفكر الاميركي. وان ارى المسؤولين يدرسون الاحوال التي وصفها والقواعد التي تركها والمبحث الكوني الذي اضاء فكر العالم. عبثا بحثت عنه. البعض قال انه لم يدع من الامانة العامة. والبعض قال انه جاء ثم هرب. والبعض قال ان احد المرافقين شاهده وحيدا فشكك في مظهره، فطلب منه اوراقه الثبوتية، فرفع عمامته قليلاً ومسح جبينه، وقال له: يا بني، لا ادري اين نسيت هويتي. في القاهرة، او في دمشق. او في غرناطة. لقد تعبت ذاكرتي الآن. لكنني اؤكد لك انني من هنا.

وقال المرافق وهو يدخن السيجار ويضع يده على مسدسه: الذاكرة لا تبرر شيئاً. نحن نعرفكم جميعاً يا اعداء الثورة. انكم دائماً تخدعون الشعوب بهذا المظهر المتواضع بدل ان ترفعوا رؤوسكم هكذا. ورفع المرافق رأسه وعنقه حتى كادا يخرجان من كتفيه. وتركه الرجل الشيب ومشى. فلحق به، وشده من ذراعه بقوة، ونهره قائلا: كيف تدير لي ظهرك ايها الجاسوس الخسيس.

وسمع الضجيج رجل من تونس فتدخل فورا. وقال للمرافق، كيف تخاطب هذا العم هكذا.

الا تعرف من هو؟ وقال فاجر العينين، من يكون هذ!؟ فأجاب، انه مواطني ابو زيد عبد الرحمن ابن محمد ابن خلدون. ففكر المرافق قليلا ثم قال كمن لا ينطلي على ذكائه شيء، «هل انت متأكد انه تونسي»؟

قال ابو زيد عبد الرحمن ان شرعية الحكم ثلاث: الطبيعية والتنظيم والشرع. ومضى يطوف في اقطار العرب يدرس احوالهم ويمحصها ويحاول معالجتها. وعندما توسط لدى تيمور لنك لم يكتف بحكمته في اقناع الطاغية بل عرض نفسه رهينة. وبحث عن حلمه في كل مكان. ولد في تونس وعاش في العواصم ومات في القاهرة. تدارسته الامم وتتلمذت عليه. ودرسته المعاهد منذ ستة قرون وظل يتقدمها ويتقدم اساتذتها وبقي منارة على ابوابها وفوق اعمدتها.

ومنع في العالم العربي، وأهين، وبدل تعليماته قامت جمهوريات المرافقين والمرافقات. وكنت اتطلع في بعض الوجوه البائسة في مؤتمر تونس فاسأل ربي ما هو الخطأ الذي ارتكبته امتي. ما هي الخطيئة التي تعوض عنها. لماذا من ابن خلدون الى هنا. ولماذا يجب ان تأتينا الافكار الان بالمعلبات المختومة. وبالتنك. واحتكاك الصفيح يصدر اصواتاً مزعجة احيانا. ولكن ابا زيد ممنوع من الدخول الى العقل العربي.

كان هناك غائب تونسي آخر من نوع نادر. لقد حاولت وانا في تونس ان اذهب الى المناستير لزيارة ضريح الحبيب بورقيبة. وقيل لي المسافة طويلة فإلى الرحلة المقبلة. لقد حمل بورقيبة الى تونس الاستقلال. واعطى نفسه لقب او كنية المجاهد الاكبر. وقاد التونسيين في طرد الاستعمار، مشرداً من بلد الى بلد. ثم تقدمهم في وضع الاسس لبلد حديث قابل للحياة. اموال الطرق وضعها في الطرق. واموال الزراعة وضعها في الزراعة. وعندما كان يسمع ان بعض الناس تنام دون عشاء كان يبكي مثل الاطفال الذين اضاعوا امهاتهم في السوق. وكان كل خميس يستضيف اثنين من مختلف طبقات المجتمع لكي يتعرف الى هموم البشر. ولم يجعل من ابنه الوحيد اكثر من موظف بسيط ووزير عابر. لقد تقدمت تونس وتطورت جدا عما تركها المجاهد الاكبر. لكنه رسم لها الطرقات الواسعة وانشأ الضواحي الجميلة واعطى المدن والمناطق حقوقها وعنايته. واحبه التونسيون. قال بعض العرب انه عميل اميركي. وقالت اذاعة الاستاذ احمد سعيد انه يذهب بنفسه الى السفارة الالمانية ليملأ حقيبته. وقالت منظمة التحرير انه خائن. ثم احتضنها هنا في هذه المدينة النظيفة الخالية من الزعيق. والناس تقف فيها على الضوء الاحمر. والرجال يعملون في الارض.

وليست تونس اغنى دول العرب ولا اكبرها. لكنها رزقت، مثل عدد غير قليل من الامم، بمؤسس ذي فكر مستقبلي وقلب طيب وهمة عمرت الى ما بعد التسعين.