أيام فاتت

TT

من مظاهر الحياة الاجتماعية الاصيلة في بغداد والتي تعطي العاصمة العراقية في موسم الصيف طابعاً متميزا ظاهرة حياة الجراديغ، العشات البدائية من الحصير والخشب تقام على شواطئ دجلة الرملية بصورة مؤقتة في الصيف.

كان عالماً قائماً بنفسه. الانبطاح على الرمل وشوي السمك المسقوف والاستماع للأغاني الرائجة. هناك يجلس الأصدقاء، يأكلون ويشربون ويتبادلون حلو الكلام. كانت تقوم مقام العوامات في القاهرة.

جاء صدام حسين ومزق تلك الحياة. بنى قصوره وقصور عصابته ومنعوا الناس من المرور أمامهم وتعكير صفوهم وملاحظة سرقاتهم. لم يسمحوا لأحد ببناء أي جرداغ فاختفت تلك الحياة البسيطة التي احتضنت نوعاً من الديمقراطية. فقد كان صغار القوم وكبارهم يقيمون نفس الجراديغ البسيطة ويختلطون مع بعض، يتشاركون في الطعام والشراب والسماع لنفس الاغاني. كان لمحمد فاضل الجمالي جرداغه وعلى مسافة منه اقام رئيس الوزراء نديم الباججي جرداغاً آخر. وبينهما اقام السيد ودود معلم الرياضة والنشيد جرداغه وبجواره موشي، بوحسقيل صاحب دكان السكاير في الشورجة. لا أحد يسأل عن هويتك أو دينك أو مذهبك. انه عالم الجراديغ، عالم الحرية والمحبة والاخوة. لا احد يعتدي على احد. النساء والأطفال يأتون ويذهبون بكل سلام وطمأنينة.

يترك القوم عند الصباح جرداغهم ويذهبون لاشغالهم ويعودون مساء فيجدون كل شيء في مكانه.

نبهت الشرطة مدير ناحية الكرادة، عبد العزيز السامرائي، أبو ليث بأن نديم الباججي قد اقام جرداغه مقابل الدورة. قالوا هذا شيء غير صحيح. رئيس الحكومة قاعد في جرداغ ويمكن ينام فيه بدون اي حرس. محتمل ان يأتي سكارى في آخر الليل ويدخلون الجرداغ ويعملون عملة. اتصل صديقنا عبد الكريم الياسري بضابط الشرطة كامل كتو، وطلب منه اتخاذ الاحتياطات لحراسة جرداغ رئيس الوزراء. استحصل المعاون على موافقة وزارة الداخلية بوضع نفر من الشرطة مقابل الجرداغ بحيث يوفرون الأمن ويمنعون الغوغاء من ازعاج رئيس الحكومة. وهو ما تم. وقف اثنان من الشرطة على امتداد الشاطىء يتربصون للجرداغ ومن يمر بجانبه.

عاد السيد نديم الباججي في احدى الليالي متأخراً الى ذلك المكان. فنزل من السيارة وأمر السائق بالانصراف لبيته، سار فوق الرمل الناعم نحو الجرداغ. واذا به يصادف أحد هؤلاء الشرطة واقفاً في الحراسة. وقف استعداداً له وحياه. استغرب نديم الباججي في أمره فسأله: «ابني شنو انت واقف هنا؟ اكو شي صار؟ حادث؟» فأجابه الشرطي بالنفي واعلمه بأن المعاون كتو امرهم بالمجيء هنا وحراسة جرداغ رئيس الوزراء. قال له: ابني انا رئيس الوزراء وانا ما احتاج اي حرس. شنو اللي عندي يحرسوه؟

اتصل في اليوم التالي بمدير الناحية وأخبره بأنه لا يحتاج الى أي حرس، لا يشعر بأي خطر أو بأحد يفكر بالاعتداء عليه. انها حكاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. عدلت فأمنت فنمت. وقضى نديم الباججي كامل موسم الصيف في جرداغه دون اي حادث أو حتى أي اشارة من الصحافة.

وأدى دوره في الحكم وقدم استقالته في حينها وعاش ومات آمنا محترماً، لا من شرطي يحرسه ولا من عدو يهابه ولا من خصم يفضح به.

وكانت اياماً وفاتت، ايام الجراديغ، ايام الأمان والسلام.. وفاتت.