علامات تعجب

TT

المغاربة وطنوا أنفسهم منذ زمن طويل على المثل الذي يلغي كل حالات الاستغراب والتساؤل والتعجب في بلادهم وصاروا يضحكون قبل القائل حين يسمعون «إ،ن كنت في المغرب لا تستغرب» وجاء الدور على العرب ليتبنوا سياسات مماثلة وليلغوا علامات التعجب من الاذهان والورق، فكلها زائدة ولا معنى لها امام أحداث ومواقف تفوق أي عجب وتتفوق على أي عبث عرفته البشرية في تاريخها المليء بالعابثين.

هل في اللغة علامات تعجب تكفي ـ مثلا ـ لتفسير قرارالرئيس عرفات طيلة عشر سنين بعدم دفع رواتب الشرطة وقوات الامن الفلسطينية من خلال البنوك والإصرار على دفعها من خلال رؤسائهم حتى يتحكم بالجميع من خلال لقمة عيشهم مثل زعيم عربي آخر لا يسمح لأي موظف في الدولة مهما كان منصبه ان يوقع على شيك تزيد قيمته على ألف دولار إمبريالي لذات الغرض التحكمي والتهكمي.

وفي وضع يلغي العادي ويحيله الى استثناء، ينقلب تفكيرنا رأسا على عقب، لذا حين وافق عرفات أخيرا بعد تدخلات دولية على دفع الرواتب من خلال البنوك نظرنا الى القرار كانجاز من الرئيس الديمقراطي الذي سيبني دولة علمانية تكون نموذجا لمن حوله.

وعلى ذكر العلمانية والديمقراطية فان تونس الموصوفة بالصفتين حين أجلت القمة العربية الشهر الماضي ذكرت وسائل اعلامها ان الاعتراض التونسي كان على عدم موافقة بعض العرب على تطبيق التعزيزات الديمقراطية في العالم العربي، وهذا وحده يكفي ليوحي لك بأن الديمقراطية في تونس الخضراء معززة مكرمة مصونة والخطأ في البقية الذين لا يحذون حذوها مع ان الاغلبية طبعة ديمقراطية عربية موحدة تصون الديمقراطيات في الثلاجات حتى لا تفسد من حرارة الحماسة لها في هذا الموسم الذي أحال معظم المستبدين الى ديمقراطيين بسحر ساحر وفي غمضة عين.

ومن ليبيا جارة تونس قرأت في صحيفة «الزحف الاخضر» يوم 29ـ 3 ـ2004 تصريحا ساخنا لأحمد ابراهيم نائب رئيس اللجان الشعبية(البرلمان الليبي) يقول فيه ان اميركا دولة امبريالية تحترف عداء الشعوب ولا تقبل التعامل الا مع من كان عدوا أو عميلا.

وبصراحة أوشكت على التعجب رغم دعوتي لحذف هذه العلامة نهائيا من حياتنا وكتبنا، فهذا رجل شجاع يعرف ان اميركا تتعاون مع زعيمه بالسر والعلن ويقول هكذا كلاما عن المتعاونين مع اميركا، وفي عز التأرجح بين التعجب وعدمه لاحظت انه حفظ خط الرجعة بجمع العدو مع العميل، مع انه لا رابط بينهما لكنه يعرف انهم قد يسألونه عن الثانية فيحلف بالكتاب الاخضر انه كان يقصد الاولى حين يتعلق الامر ببلاده وزعيمه الملهم.

هكذا زمن لاينفع معه غير قول الجاحظ يخاطب مستمعا من مستمعي عصره:« خفض عليك ايها السامع فان الخطأ كثير غامر ومستول غالب والصواب قليل خاص ومقموع مستخف وكنت اتعجب من كل فعل خرج من العادة فلما خرجت الافعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجبا فبدخولها كلها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب».

وعملا بوصية هذا الشيخ الجليل الذي لا نعرف لون أغلفة كتبه، الأفضل ان نعود الى ازدراء علامات التعجب بوصفها العدو الوحيد الذي نستطيع التغلب عليه في ظروفنا الحالية، فبعد كل ما حصل لماذا نتعجب؟ وعن ماذا نستفهم؟ وماذا نستغرب؟ وقد خرجت الافعال جميعها من باب المألوف ووصلنا الى مرحلة تحيل كل عبث يوجين يونيسكو، رائد العبث الدولي، قياسا بما يجري عندنا، الى واقعية فجة لا تستحق التفاتة تعجبية.