شهادة أمريكية تنهي أسطورة تحرير العراق

TT

اغلب الظن انها مجرد مصادفة، ان تحل الذكرى السنوية الاولى لاسقاط نظام بغداد، وفي الوقت ذاته تتوفر لنا شهادة امريكية تحسم اللغط الذي اثير حول مقاصد غزو العراق، فتنفي بشكل قاطع كل ما يقال عن حكاية «تحريره» والسعي لاقامة الديمقراطية فيه، والشهادة التي اعنيها وردت مفصلة في ثنايا كتاب ريتشارد كلارك، منسق مكافحة الارهاب السابق بالبيت الابيض، الذي صدر في واشنطن مؤخرا تحت عنوان «في مواجهة كل الاعداء» وهو الكتاب الذي كشف تفاصيل الحرب ضد الارهاب داخل كواليس الادارة الامريكية، ونشرت «الشرق الاوسط» بعض فصوله، وقد احدث صدوره دويا واسع النطاق في الولايات المتحدة، مازالت اصداؤه تتردد حتى الان، خصوصا ان المعلومات التي وردت فيه سببت احراجا كبيرا للرئيس بوش، القى بظلاله على أجواء حملته الانتخابية.

الشق الذي يعنينا في السياق الذي نحن بصدده يتعلق بما ذكره ريتشارد كلارك خاص بالملابسات التي ادت الى اقحام العراق في المناقشات التي جرت حول تحديد المسؤولين عن احداث 11 سبتمبر (ايلول) وكيف ان وزير الدفاع رامسفيلد ونائبه وولفويتز نجحا في تحويل انتباه الرئيس بوش من الاهتمام بتنظيم القاعدة والتركيز بدلا من ذلك على اسقاط النظام في العراق.

في فصل عرض فيه المؤلف ما جرى داخل كواليس البيت الابيض وفي اليوم التالي مباشرة للهجوم على مركز التجارة العالمي ذكر كلارك ما يلي (وانما انقل عن الحلقة التي نشرتها «الشرق الاوسط» مترجمة الى العربية في 3/30) : توقعت ـ يوم 12 سبتمبر ـ ان اعود الى سلسلة من الاجتماعات للوقوف على طبيعة اي هجمات اخرى محتملة ومناقشة الاهداف (الامريكية) المعرضة للخطر، وبدلا من ذلك دخلت في سلسلة من المناقشات حول العراق، وادركت ان رامسفيلد ونائبه وولفويتز سيحاولان الاستفادة من المأساة القومية للترويج لاجندتها الخاصة بالعراق. فقد ظل كلاهما منذ قدوم ادارة بوش يضغط لشن حرب على العراق.

وقال لي اصدقاء في البنتاجون (وزارة الدفاع) ان الولايات المتحدة ربما تغزو العراق في وقت ما خلال عام 2002م.

اضاف: لم يكن تركيز وزارة الدفاع صباح يوم 12 سبتمبر منصبا على تنظيم القاعدة، رغم ان وكالة الاستخبارات المركزية اكدت انه من دبر الهجمات، الا ان وولفويتز لم يقتنع بذلك، وقال ان الهجمات اتبعت اسلوبا معقدا ومتقدما، يتجاوز قدرة اي جماعة ارهابية، واذا ما أرادت أي جماعة ان تقوم بها فان الامر يتطلب مساعدة من دولة هي العراق على الأرجح. وكان وولفويتز قد قال الكلام ذاته في اجتماع لمناقشة قضية الارهاب عقد في شهر ابريل عام 2001، عقب تولي الرئيس بوش مهام منصبه (وقبل احداث سبتمبر) وفيه طالب كلارك باتخاذ اجراء ضد تنظيم القاعدة، وهنا انبرى وولفويتز قائلا ان التركيز على القاعدة تفكير خاطئ، وانما ينبغي تعقب الارهاب الذي يرعاه العراق. وفي الاجتماع رفض وولفويتز تأكيد كلارك وتأكيد الاستخبارات المركزية على انه لم يكن هناك ارهاب ممول من العراق ضد الولايات المتحدة منذ عام 1993م.

ظهر يوم 12 سبتمبر ـ والكلام لايزال لريتشارد كلارك ـ كان الوزير رامسفيلد يتحدث عن توسيع اهداف رد الولايات المتحدة على الهجوم الذي تعرضت له، والالتفات في ذلك الى العراق، الا ان كولن باول حث المشاركين على التركيز على تنظيم القاعدة، وهو ما دعا كلارك الى الترحيب بهذا الرأي وقوله ان مهاجمة العراق، ردا على هجوم تعرضنا له من جانب تنظيم القاعدة، سيكون تماما مثل غزو الولايات المتحدة للمكسيك بعد هجوم اليابانيين علينا في بيرل هاربور(!)

في وقت لاحق من نفس اليوم شكا رامسفيلد من عدم وجود اهداف مناسبة للقصف في افغانستان، وقال انه يجب ان ندرس قصف العراق بدلا من افغانستان، لان لديه اهدافاً افضل، وهو ما علق عليه كلارك قائلا: اعتقدت في البداية ان رامسفيلد يمزح، لكنني تأكدت انه كان جادا، كما ان الرئيس لم يرفض فكرة مهاجمة العراق. وبدلا من استبعاد الفكرة فورا، فان بوش اشار الى ان ما نحتاج اليه في العراق هو تغيير حكومته، وليس قصفه بالمزيد من صواريخ كروز، كما قال رامسفيلد.

استطرد كلارك في شهادته قائلا: في وقت متأخر من مساء 12 سبتمبر جمعهم الرئيس بوش في غرفة المؤتمرات وطالبهم بان يراجعوا كل شيء، وان يتأكدوا مما اذا كان صدام حسين هو الذي دبر الهجمات، وكرر هذا التوجه مرة ثانية.

حسب كلامه، فان كلارك اصيب بالدهشة، وقال للرئيس بوش ان تنظيم القاعدة هو الذي فعلها، فكان رده: اعرف ذلك. اعرف ذلك، راجعوا ما حدث وتأكدوا مما اذا كان صدام حسين متورطا.

ازاء ذلك لم يملك كلارك الا ان يقول للرئيس انه سيعيد النظر مرة اخرى، لكنه ابلغه في الوقت ذاته بأن مسألة العلاقة بين القاعدة والعراق بحثت اكثر من مرة من جانب جبهات عدة، واكد الجميع ان تلك العلاقة غير قائمة، وحينئذ رد الرئيس الامريكي قائلا: انظروا في امر العراق وصدام. ثم انصرف.

وهو يصف تلك اللحظة قال كلارك ان كونداليزا رايس مستشارة الامن القومي التي كانت تقف اثناء الحديث خلف الرئيس عقدت الدهشة لسانها وتطلعت اليه بفم مفتوح من المفاجأة، وهي الدهشة التي اصابت كل معاوني الرئيس الذين سمعوا كلامه، وحين دخل عليهم احد زملائهم وهم في حالتهم تلك، لاحظ الوجوم والدهشة على وجوههم، فاستغرب وسأل ما الذي يجري هنا؟ فردت كونداليزا قائلة: لقد تمكن منه وولفويتز .. انتهت الشهادة.

ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني عدة اشياء، اولها ان حكاية امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل، التي قيل ان تدبيرها سبب الغزو، تأكد مجددا انها ملفقة مكذوبة، وثانيها ان مسألة التحرير والدمقرطة التي يسوقها الامريكيون الآن لتبرير بقائهم في العراق، بحجة «تمسكهم» باقامة الديمقراطية هناك، ليست الا حلقة اخرى في سلاسل الكذب والخداع، اما ثالثها فان الشخصية «المفتاح» ومهندس الحرب ضد العراق هو نائب وزير الدفاع بول وولفويتز، الذي شكل مع وزيره رامسفيلد قوة الضغط الرئيسية التي ملأت رأس بوش بأولوية الخطر العراقي، واقنعته بأن نظام بغداد هو اصل الشر ومصدره، وان القاعدة فرع عنه وهذه النقطة الاخيرة تحتاج الى وقفة.

ذلك ان وولفويتز، وهو دبلوماسي مخضرم وجمهوري متعصب ويهودي من غلاة المتعصبين لاسرائيل، يتبنى منذ عام 92 رؤية خاصة ازاء العراق، حيث يعتبره ضمن اخطر الدول التي تهدد المصالح الامريكية، وهو صاحب المذكرة الشهيرة التي اصدرها في ذلك العام حول «توجهات السياسة الدفاعية الامريكية» وقد اكتسبت اهميتها ليس فقط من مضمونها الذي عرض فيه 7 سيناريوهات للتهديد المحتمل لبلاده، ودعوته الى منع ظهور أي منافس للولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن ايضا لانه كان آنذاك مساعدا لوزير الدفاع للشؤون السياسية.

هذا الموقف من العراق عبر عنه وولفويتز في اكثر من مناسبة بعد ذلك، خصوصا في مذكرتين اعلنتا في عامي 97 و 98، والاخيرة كانت خطابا موجها الى الرئيس كلينتون وقع عليه عدد من ابرز الشخصيات في الساحة السياسية، كان بينهم وولفويتز ورامسفيلد ونوكويا وزلماي خليل زاده السفير الامريكي في كابول حاليا، هذه المذكرة ركزت بشكل خاص على العراق، وقالت صراحة ان سياسة «الاحتواء» التي تتبعها واشنطن ازاءه خاطئة وان اسقاط نظام بغداد اصبح يمثل ضرورة استراتيجية، وحين اصبح وولفويتز جزءا من ادارة الرئيس بوش ونائبا لوزير الدفاع منذ عام 2001، فإنه ظل ثابتا على موقفه ولم يتزحزح عنه، لأن هذا التقدير لم يكن صحيحا، حيث ثبت ان العراق لم يكن يمثل أي تهديد للولايات المتحدة وانه منذ عام 93 على الاقل تخلص من كل ما لديه من اسلحة الدمار الشامل، كما اثبتت معلومات الاستخبارات المركزية انه لا توجد اية علاقة بين النظام البعثي وبين تنظيم القاعدة، ومن هنا فإن موقف وولفويتز «الصليبي» من العراق يظل بحاجة الى تفسير.

حين رجعت الى من اعرف من الخبراء في السياسة الامريكية فانهم لم يختلفوا على أن ارتباط وولفويتز وتعاطفه الشديد مع حزب الليكود هما مفتاح موقفه، ذلك ان اسرائيل هي صاحبة المصلحة الاولى في اسقاط النظام العراقي، وبعد ذلك تأتي مصلحة الولايات المتحدة. كيف ولماذا؟

اذا لاحظنا ان اول مذكرة معلنة اعدها وولفويتز وتحدث فيها عن خطر العراق والتهديد الذي يمثله كانت في عام 92، فلا ننسى ان العراق كان قد اطلق عدة صواريخ على اسرائيل في 91، وكانت هذه هي المرة الاولى في تاريخ الدولة العبرية التي تعرضت فيها لموقف من هذا القبيل، ولست اشك في ان اسرائيل ارادت لها ان تكون الاخيرة، ولأن قوة العراق العسكرية كانت اكثر ما تتحسب له اسرائيل على جبهتها الشرقية ـ وبعد ان قامت بتسكين جبهاتها الاخرى، ولم تكن قلقة كثيرا من سورية ـ فقد كان مطلوبا التخلص من القلق العراقي باسقاط نظامه ووقف «مناكفاته» المحتملة، وربما كان احتلال نظام صدام للكويت في عام 90 عنصرا مشجعا، لأنه بفعلته تلك اشاع سخطا ونفورا في اغلب اقطار العالم العربي، الامر الذي يعني ان اسقاطه سيرحب به على الاقل من جانب دول الخليج وايران.

بعد هذه المصلحة الاستراتيجية لاسرائيل تأتي المصالح الامريكية المتمثلة في الهيمنة على النفط العراقي، والاقتراب من ايران، وابتزاز العالم العربي (الذي يصب في مصلحة اسرائيل بطبيعة الحال).

لاجل ذلك اعتبر وولفويتز ان من مهامه الرئيسية في الادارة الامريكية العمل على تحقيق الهدف الذي سعى اليه منذ بداية التسعينيات، ولذلك لم يتورع عن مواصلة الضغط والالحاح لاقناع الرئيس بوش بأن العراق هو المسؤول الاول عن احداث 11 سبتمبر، وان القاعدة مجرد أداة لها، وفيما بدا فان الرئيس الامريكي قليل الخبرة بهذه الامور ـ وبالسياسة عموما ـ كان مستعدا للاقتناع وجاهزا للاستنفار، ولان اغلبية المحيطين به كانوا اقرب الى افكار وولفويتز، فقد جرى ما جرى وخرجت الولايات المتحدة من وهم التهديد العراقي لتسقط في مستنقع الغضب العراقي. وهم لا يزالون يمكرون، لكن الله خير الماكرين.