واقعية حماس المفاجئة.. تكريس لتوجهات الشيخ ياسين..!

TT

إنعطافة حركة «حماس» السياسية الأخيرة ليست جديدة ، وإن هي جاءت هذه المرة أكثر وضوحاً وأكثر تحديداً، فلقد سبقت هذا الموقف، الذي اعتبره البعض تحولاً جذرياً له دلالات لا يمكن تجاهلها بعد رحيل الشيخ احمد ياسين بنحو اسبوع، إشارات كثيرة على ان هذه الحركة مستعدة لأن تكون اكثر اعتدالاً ومستعدة لتأييد العملية السلمية حتى بصيغتها الحالية إذا كانت هناك ضمانات بانسحاب اسرائيل من الاراضي التي احتلت عام 1967.

يخطئ من يذهب به الخيال الى ان هذا التحول، الذي أعلنه ثلاثة من قادة هذه الحركة هم: اسماعيل هنية ونزار ريان وسعيد صيام، يدل على أن الشيخ احمد ياسين كان ضد هذه المرونة وأنه بشخصيته القوية ويده الطائلة داخل حركة «حماس» كان بمثابة السد المنيع في وجه هذا الاعتدال الذي تفجر دفعة واحدة بعد عشرة ايام من اغتياله.

والحقيقة ان الشيخ احمد ياسين، رحمه الله، كان يبدي المزيد من التشدد من اجل المزيد من الاعتدال وانه كان الاكثر واقعية بين اخوته وزملائه في قيادة هذه الحركة، وأنه كان بمثابة صمام الامان بالنسبة للوحدة الوطنية الفلسطينية وتجنب الاقتتال الداخلي والحرب الاهلية، وإنه كان باستمرار يلعب دور الكابح لجماح قيادات الخارج الذين يتخذون الكثير من مواقفهم وسياساتهم تحت ضغط التأثيرات الجغرافية ومجاراة لبرامج واستراتيجيات جماعة الاخوان المسلمين في العديد من الدول العربية.

لم يُعرف عن الشيخ احمد ياسين في أي يوم من الايام انه يمثل ما يمكن ان يسمى «جناح الصقور» في حركة «حماس»، وهنا فإن هدف إقدام رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون على اغتياله والتخلص منه هو للتخلص من مفاوض فلسطيني مستقبلي معتدل ولكن عنيد، وهو الاستمرار بتسويق الكذبة القائلة إنه لا يجد على الجانب الفلسطيني المفاوض الذي يمكن الوصول معه الى الحل المعقول الدائم.

لقد استطاع شارون معتمداً على المواقف الاميركية التي استجدت بعد الحادي عشر من سبتمبر ( أيلول ) 2001 ان يضعف القيادة الفلسطينية المعتدلة، التي توصلت مع رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق اسحق رابين الى إتفاقيات أوسلو، والهدف هو تمرير الكذبة القائلة إن جميع الفلسطينيين إرهابيون، وانه لا يوجد المفاوض المعقول على الطرف الآخر، ولذلك فإن رئيس الوزراء الاسرائيلي بإقدامه على ارتكاب جريمة اغتيال الشيخ احمد ياسين أراد اغتيال تيار الاعتدال داخل حركة المقاومة الاسلامية، وأراد تعزيز جناح الصقور داخل قيادة هذه الحركة خدمة لكذبته الآنفة الذكر.

وهنا فإن المواقف التي اتخذها عدد من قادة حركة «حماس» ، خلال الأيام الأخيرة، وفي الوقت الذي كان فيه العالم ينتظر ردهم «المزلزل» على اغتيال قائدهم ومؤسس حركتهم، تدل على ان هؤلاء القادة الميدانيون يعرفون وعن قرب واقعهم وواقع شعبهم ويدركون مغزى وهدف اغتيال الشيخ احمد ياسين، ولذلك فإنهم بادروا وبسرعة الى الاعلان عن هذا الموقف العقلاني ليردوا على شارون، وليقولوا لشعبهم أولاً وللعالم ثانياً إأنهم مستعدون للاعتدال اذا كانت هناك ضمانات بإلزام اسرائيل بهذا الاعتدال.

إن هذا جانب من جوانب إعلان قادة «حماس» الميدانيين انهم يقبلون بدولة على الارض الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وأنهم مستعدون للمشاركة في ادارة غزة في حال انسحاب الاسرائيليين منها، اما الجانب الآخر فهو قناعتهم ان الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة بات تحصيل حاصل وأن عليهم، حتى لا تصبح حركتهم مستفردة ومعزولة ومحاصرة، أن يكونوا شركاء في هذه المرحلة الجديدة.

لا بد من ان قادة «حماس» الميدانيين، الذين لا يتأثرون بالتوجهات السياسية الخارجية التي اعتادت توظيف القضية الفلسطينية من اجل حسابات حزبية ضيقة، يعرفون أن مصر من حيث المبدأ توافق على العودة الى غزة في هيئة مستشارين، وبصورة الإشراف على النواحي الامنية والإدارية في الفترة الانتقالية. كما انهم يعرفون ان الانسحاب من طرف واحد، والذي يواصل شارون التلويح به والتأكيد عليه، سوف يتم بعد الانتخابات الاميركية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل مباشرة.

وربما يعرف قادة «حماس» الميدانيون أيضاً ان هناك حديثاً، في إطار الاتصالات المكثفة المتعلقة بالوضع في الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية، عن إمكانية إرسال قوات من حلف شمالي الأطلسي (الناتو) للمرابطة في شمالي قطاع غزة على خطوط التماس مع اسرائيل، وأيضاً إمكانية وضع المستوطنات في هذه المنطقة، بعد رحيل الاسرائيليين عنها ، تحت وصاية دولية وبإشراف البنك الدولي.

إن هذا كله يعرفه قادة «حماس» الميدانيون، وهم يعرفون أيضاً أنه اذا جرى هذا الانسحاب المرتقب من قطاع غزة أولاً، ومن الضفة الغربية ثانياً، بينما حركتهم تواصل الوقوف خارج الاطر الرسمية الفلسطينية، فإن الثمن سيكون غالياً وان مصيرهم سيكون كمصير كل الحركات التي لم تتحلَ بالواقعية والتي بقيت تسبح ضد التيار فكانت نهاياتها مأساوية.

على كل الذين يراقبون المشهد، سواء عن قرب او عن بعد، ان لا يصابوا بعمى الألوان وأن لا يخطئوا في الحسابات والتقديرات، وعليهم ان يدركوا ان ما أعلنته حركة «حماس» على ألسنة قادتها الميدانيين في قطاع غزة ليس ضعفاً، وليس استغلالاً لفراغ أحدثه غياب الشيخ احمد ياسين، كما أنه ليس دلالة عجز عن ثأر مزلزل رداً على اغتيال قائدهم ومؤسس حركتهم .. إنه سير على نفس الخط الذي كان يسير عليه هذا القائد الشهير الذي أقدم شارون على جريمة اغتياله لنفس الهدف الذي يحاول من اجله تغييب ياسر عرفات خلف اسوار مبنى «المقاطعة» المهدمة في رام الله.

لقد أقدمت حركة «حماس»، على ما أقدمت عليه، من موقع الاقتدار وإدراكاً لما سيحصل في الشهور القليلة القادمة في غزة ، وبعد ذلك في الضفة الغربية ، وإذْ أن قادتها «الميدانيين» بادروا الى هذه المرونة والى هذا الاعتدال فلأنهم يعرفون، بالإضافة الى كل ما سلف ذكره، أنه من مصلحتهم ومصلحة حركتهم وقضيتهم ان لا يبقى العالم يضعهم في دائرة التطرف والإرهاب، ولأنهم يريدون أن يثبتوا ان «حماس»، رغم كل ما قيل عنها، حركة واقعية هدفها ليس التصدي للولايات المتحدة و« الاستكبار العالمي» في كل مكان وفوق كل أرض، وإنما وضع أقدام الشعب الفلسطيني على بداية الطريق للوصول الى حقوقه وإقامة دولته الممكنة داخل حدود الاراضي التي احتلت عام 1967.

هناك فرق كبير بين مسؤولية حركة «حماس» ومسؤولية تنظيمات «الإخوان المسلمين» في الدول العربية وفي العالم. ومن الخطأ الفادح القاتل ان تُخضِعَ هذه الحركة التي هي حركة تحرر وطني مواقفها وسياساتها لـ«استراتيجية» التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وتصالح من يصالحونه وتعادي من يعادونه. إن من حق «حماس» كحركة تحرر وطني فلسطيني ان تكون أهدافها متواضعة وان تكون سياستها واقعية وان ترفض معادلة «إما كل شيء وإما لا شيء » وأنه على الآخرين، حتى «جماعة الأخوان المسلمين»، على مستوى التنظيمات الاقليمية والقطرية وعلى مستوى التنظيم الدولي، ان يتفهموا ظروف الفلسطينيين وواقعهم وان يكفوا عن استخدامهم اسلحة لمعارك جانبية والتضحية بآخر رجل منهم تحت شعار: «التصدي للشيطان الاكبر .. وهزيمة قوى الاستكبار العالمي».

لقد كافح الشعب الفلسطيني خلال الاعوام الثلاثة الماضية كفاحاً بطولياً في ظل معادلة دولية وعربية أيضاً ليست لمصلحته. والآن وقد لاحت مؤشرات جدية على ان اسرائيل ستنسحب فعلاً من قطاع غزة ، فإنه من حق حركة «حماس» ان تراجع مواقفها وان تستعد للتكيف والتلاؤم مع هذا الموقف المستجد المرتقب بعيداً عن التأثيرات الخارجية، وخارج إطار التنظيمات التي تزمجر عن بعد والتي تريد مواصلة «الجهاد» حتى آخر فلسطيني.

إن ما فعلته حركة «حماس» هو عين العقل، وإن الذين يزمجرون عن بعد ويسعون لدفعها لمواصلة العمليات «الانتحارية» يريدونها ان تنتحر كحركة تحرر وطني من اجل حسابات وأهداف لا علاقة لها بحسابات الشعب الفلسطيني وأهدافه، ويريدونها أن تجد نفسها ذات يوم تعيش حصاراً تنظيمياً داخلياً وحصاراً شعبياً فلسطينياً.. ويريدونها أن تنتهي شهيدة ليفجروا المظاهرات الهادرة في شوارع المدن العربية خدمة لأهدافهم الحزبية التنظيمية والسياسية الخاصة.