رسالة التماثيل السوداء

TT

حتى التماثيل السومرية والاكدية والبابلية والاشورية التي ظلت مطمورة تحت التراب والطين والحجر آلافا من السنين لم تُعدم ـ عند استخراجها من باطن الارض ـ الالوان: لون الفخار او لون الغبار، مثلا.. بل ان الوان بعضها جميلة وزاهية كالرمادي المخضرّ.

لكننا الاحد الماضي شهدنا تماثيل حالكة السواد تسير في بغداد على وقع المارشات العسكرية والصيحات «الثورية»، حيث خرجت، او أخرجت، النساء من اتباع مقتدى الصدر في الاستعراض الذي نظمه «جيش المهدي» في مدينة الثورة (صدام لاحقا والصدر اخيرا) وهن في هيئة تماثيل من الفحم الحجري: عباءات طويلة واغطية وجه (بوشي) كبيرة وسميكة وقفازات للايدي سميكة، هي الاخرى، وجوارب سميكة ايضا ونعالات من الكاوتشوك.. كلها فاحمة السواد!

هذه، بالطبع، رسالة الى العراقيين مفادها ان الذي سيفجر، بعد ذلك الاستعراض بساعات، اعمال عنف سعيا لانتزاع اعتراف به ليس فقط زعيما لشيعة العراق بل ايضا «قائد للعراق»، حسب تعبير احد كبار مساعديه في اليوم التالي، انما يريد ان يفرض على العراق نظام حكم اسوأ من نظام طالبان ـ القاعدة في افغانستان. فنظام طالبان ـ القاعدة اعطى لنساء افغانستان «حرية» ان تكون العباءات واغطية الوجه والقفازات والجوارب والنعالات ملونة، واحيانا مزركشة.. كان شرطه الوحيد ان تعيش النساء من الداخل في الظلمة.

ما كان لمقتدى الصدر ان يبعث بهذه الرسالة المرعبة ـ رسالة التماثيل السوداء واعمال العنف ـ لو كانت الاحزاب السياسية الشيعية والمرجعيات الشيعية الاخرى قد ابلغته رسالة صريحة واضحة بان كل ما يقوم به اتباعه من اعمال اثارة واستعراض عضلات، وما يدلي به هو من تصريحات، انما يسيء كثيرا الى سمعة الشيعة ويضر بمصالحهم ويناهض تماما مصالح الشعب العراقي وما يتوق اليه من هدوء واستقرار واعادة بناء لبلاده التي دمرتها عقود من الحروب المتلاحقة والقمع الدكتاتوري الضاري.

حتى الموقف الذي اتخذته بعض هذه الاحزاب والمرجعيات في اليومين الاخيرين، وهو موقف يعبر عن تنديد ضمني وليس صريحا وادانه مستحية للجوء اتباع مقتدى الصدر الى العنف وقيامهم باحتلال المؤسسات العامة والعتبات المقدسة، انما جاء متأخرا كثيرا بعدما اريقت دماء وازهقت ارواح لعراقيين ابرياء.

* * *

هذا العمود كان مقررا له في الاصل ان يحتفل بمرور عام كامل على خلاص العراق من نظام صدام حسين، بيد انني قررت يوم الاربعاء الماضي، بعد ارتكاب جريمة قتل الاميركيين الاربعة واحراق جثثهم وسحلها وتعليقها على احد الجسور، ان اكتب مباركا لانصار «المقاومة» العراقية في عالمنا العربي والاسلامي هذا «الانجاز الحضاري» لهذه «المقاومة» وسائر «انجازاتها» على صعيد قتل العراقيين بالمفرق والجملة وتدمير ممتلكات الشعب العراقي.

حادثة الفلوجة افسدت عليّ الاحتفال بالذكرى السنوية الاولى لسقوط نظام صدام، ورسالة التماثيل السوداء واعمال العنف الموجهة من مقتدى الصدر هي الاخرى، افسدت عليّ مباركة الاخوة العرب والمسلمين بـ«انجاز» المقاومة «العراقية»!

[email protected]