وداعاً بريدي الإلكتروني الثاني..!

TT

قالت العرب عن الأحنف بن قيس:«لما هبط سيد البشر آدم إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام فقال له: يا آدم إن الله عز وجل قد حباك بثلاث خصال لتختار منها واحدة وتتخلى عن اثنتين، قال: وما هن؟ قال: الحياء والدين والعقل. قال آدم: اللهم إني اخترت العقل. فقال جبريل عليه السلام للحياء والدين: ارتفعا. قالا: لن نرتفع، قال جبريل عليه السلام: أعصيتما؟ قالا: لا، ولكنا أمرنا أن لا نفارق العقل حيث كان».

وحيث يكون العقل غير كائن، لا يكون هناك لا دين ولا حياء، ولا أظن أن من يمضي في خراب دينه ودولته إلا فاقداً لعقله، وإن ادعى الإيمان بكتاب الله وسنة رسوله، فما هو إلا ادعاء مكذوب، تفضحه أفعاله، وتنبئ عنه أقواله، وما حدث مؤخراً مع آخر بريد الكتروني نُشر لي في «الشرق الأوسط» بعد ذاك الذي اغتصب مني (انظر مقالي الاربعاء الماضي بعنوان حينما سرق مجاهدو الانترنت بريدي الاليكتروني) لا يمكن أن يُفصح عن همة مسلم، حتى وإن كُتب في شهادة تعريفه أن ديانته الإسلام، فكيف يكون المرء مسلماً ولا يرضى إلا بتلف الحياة، ولباس اللؤم، وزرع الفتنة بين أبناء أمته، فيكون كمن رفعه الله، وأبت نفسه إلا أن تضعه. أهذا هو إسلامنا!

نعتوني بأبشع الأوصاف، وزعموا أنني أدعو للتحرر والفجور، فما هو هذا الانحلال الذي دعوت إليه؟! أيكون حين ذكرت أن الوحي الذي نزل على أشرف المرسلين، صلى الله عليه وسلم، غير فهمنا له، أي أن فهم البشر للشريعة أي «المعرفة الدينية» إنما منشؤها بشري (وليس وحياً) وتطورها تدريجي، فلا يمكن الإدعاء بأن تحصيلنا للقرآن قد بلغ منتهاه!

أيكون حين ذكرت أن الحق ثابت، وليس فهم الحق، وأن كل كامل ثابت، وليس كل ثابت كامل، فيكون الدين كاملاً ولا يكون تفسيرنا له! أيكون حين دعوت للنأي عن التعرض لأولئك العلماء والفقهاء الذين يرجع إليهم الفضل في إثراء عقولنا بفهم أكبر للدين على مر العصور، وكما أنهم اجتهدوا وجدّدوا في حينهم، فعلينا أن نظفر بهذا الشرف لأن خير الأزمنة أخصبها! أيكون حين ذكرت أن إسلامنا لا يدعو إلى تعطيل العقل، وإنما إلى احترامه وإشغاله في كل زمان وفي كل مكان، وإدراكنا لشريعتنا يجب أن يكون متناغماً مع علوم زماننا ومتأثراً بها، وفيه الأجوبة الشافية (النظرية والعملية) لمشاكلنا! أو يكون قولي بأن الشريعة لا تستفيد من علوم العصر، بل نحن الذين نستمد من هذه العلوم ما يعييننا على التفقه في الشريعة، وكلما كان نصيبنا من العلوم البشرية أكبر، سيكون حظنا من فهم الوحي الإلهي أوفر!

نعم هذه أقوالي، وسأظل أنادي بها ما بقي الرمق، فإن يرزقني الله أن أدافع بحقه باطلهم، فذلك الذي أرجو، وإن تكن الأخرى فلست أول من جالد الطواغيت فهلك، فأنا لست بغافلة أن كلامي قد يحمل معه تهديداً لأصحاب من ضيّعوا الأمانة، من جمعوا حولهم كل من بثوا فيهم سمومهم باسم الدين ومحاربة أعدائه، من جزموا بأن ركود معلوماتهم دليل على كمالها، ولا أحَبُ على قلبي أن أكون سبباً في رجوع وبالهم عليهم، فأقطع أثرهم قبل أن يقطعوا أثري، فمن وهبه الله فصاحة الكلم، وسعة الاطلاع في دينه وعلوم دنياه، فلم لا يعلّم بها غيره! أليس خير علم المرء ما علّم به! أم لكوني امرأة فقد صدر معه حكم مسبق بأن علمي كله شر! وعليّ أن أظل حبيسة عقلي! وبما أن الأمر لم يقف عند حدود كلماتي، وإنما تعداه من التشكيك في إسلامي إلى انتمائي لبلدي وولائي له بحجة أصول والدتي غير السعودية، فلا أقول إلا كفى بمقالي هذا عنواناً لتربيتي، ثم كيف يحل الله الزواج بالكتابية فيأتي من يتقوّل على أبناء هذا الزواج! مع العلم بإيمان أمي وإسلامها الذي لا يحتاج معه لبينة، ولكن يحز في نفسي أن يكون فينا من يحاول حصر الإسلام في جماعة بقومها، فيكون بتعنته الجاهل قد أساء للدين والوطن معاً، فحين اخترت أن يُنشر بريدي الإلكتروني مع مقالاتي، ما فعلت ذلك إلا للتواصل مع القراء، أعرف ردود أفعالهم من خلال انتقاداتهم قبل ثنائهم، وكم استقطعت من وقتي على قدر استطاعتي ما يجعلني أكتب ردودي بمراعاة كل رسالة وظروفها، وليس بتكرار أجوبة معَدَّة، حتى وإن كانت على حساب أمور والتزامات عائلية أخرى، فماذا كانت النتيجة! رسائل تعيرني وتتوعدني، وكلمات واتهامات لا يفرح بها إلا ضعيف الأخلاق، وانتهاك للحرمات، والإمضاء القادم من مجاهل الانترنت: لن يقدر علينا أحد. فهل يُعقل أن ترسل بنوك الدم السعودي ما يعين للشعب الايراني العراق على محنته فيظهر من يكتب على صفحات الانترنت أنه دم ملوث بالإيدز! كما ورد في كلمة ولي العهد السعودي الاحتجاجية. أهكذا تُعتزل لغة الحضارة في التخاطب، إلى معارك لأسماء مستعارة لا تحمل معها قيمة أو ضمير. لا هم لها إلا أن تضيق علينا الدنيا بما رحبت. أن نعلنها هزيمة فنصمت كما فعل غيرنا! أن يُوصَم البلد بالتطرف الرافض الحاقد، ولا أملك إفحاماً لهؤلاء غير قوله تعالى مؤيداً لرسوله ومثبتاً له: «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً، ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذاً لأذقناك ضِِعفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ثم لا تجد لك علينا نصيراً» (الإسراء 75:73)، فحين زعم اللصوص أن بريدي الإلكتروني يحوي من الرسائل ما يشيب له الولدان، فلا يتفق المنطق إلا بنشر هذا الشيب، أمّا أن يمر على الغنيمة عشرون يوماً من دون أن تظهر تلك الفضائح، فلا أقول إلا خيب الله ظنكم وعملكم، فمن سيصدقكم بعد الآن وإن لفقتم من الرسائل والتواريخ ما قد يصل إليه سفهكم، فمن كان في حوزته ما ادعيتم لشّهر به منذ لحظته، وكما خذلكم من هو أكبر منكم فلا أجد غير آياته عز وجل ترد عليكم كيدكم، قال تعالى: «وقدِمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناهُ هباءً منثوراً» (الفرقان 23)، ولا شك عندي أن هذه التجربة التي جعلتني أتعرف على أساليب ولغة هؤلاء المسرفين قد لفتت نظري إلى أمور لم أكن أراها لا بشكلها ولا بحجمها الذي تكوّن لدي الآن، إنني أتحدث عن مبدأ يشترك فيه الحاكم والمحكوم، إنها معاناة التعامل مع التحجر، مع الضغائن، مع التعصب المتهور، مع الجفاء وقلة الرحمة، فمن كانت هذه صفاته، كيف يكون مجتمعه! أهله! أبناؤه! بل كيف تتقدم الأمة بهذه الازدواجية! بتناقض يلعن الغرب ثم يستعمل مخترعاته! يحارب في قضية شعارها الدين ولا يتحرج أن يغرف من وصايا الشيطان! إن المسألة أكبر من بريد سُرق وآخر اخترق، إنها مستقبل أجيال قادمة، وأبناء يغذيهم الإرهاب، وقوم آخرون نعرفهم ولا ندري بتخريبهم فلا نرى أموالهم وهي تموّل في الخفاء هؤلاء الفتية، وتذلل لهم تكاليف الحياة حتى يتفرغوا لمهاجمة دولهم بشعوبها ومنجزاتها وكل ما من شأنه الهدم وتأليب السخط وتصيد الأخطاء، وبدلاً من أن يعينوا على تقدم أوطانهم، بعلومهم وعقولهم ووعيهم، يمطرونها بوابل من ضربات معاولهم وكأنهم قد خرجوا عن حدود بشريتهم فأصبحوا فوق أي شبهة وأي زلة، أنانيون يسعون في خرابها ولا يعنيهم ما يخلّفونه، ولعل القارئ قد يكون مستعداً لأن يتفهم أن هذا الخطر لا يمكن درؤه بالاتكال على أجهزة بعينها مهما تشعبت وانتشرت، فالتصدي لهؤلاء المخربين، وإحداث الهزيمة في كل ما يفعلون، إنما يحتاج إلى عزيمة سبّاقة لمحق المعتدي والكشف عنه، لا تفسدها الاستكانة، ولا يخيفها التهديد، تجمع امرها على حب الوطن. فإني لا أرى من أرادنا بسوء إلا أن يكون حصيد الحزم، وطريد الخوف، وذليل الدولة والأمة.