مصباح العتم

TT

تصغرني زوجتي خمس سنوات. وعندما تزوجنا كانت هي في الثالثة والعشرين وكنت في الثامنة والعشرين. جاءت من عالم مختلف، واحيانا مناقض، انا من الفوضى والصحافة والسفر، وهي من كلية العلوم الطبيعية. وفي تلك المرحلة كنت قد بدأت توقيع ما اكتب. وكانت الناس تقرأ. وكنت في فورة الذين يريدون تغيير كل شيء مرة واحدة وفي يوم واحد. لا اعتراف بالمسافات ولا بالمراحل ولا بالمعطيات ولا بالقوى ولا بالعناصر. وكانت زوجتي تقول لي، بكل تواضع وبكل أدب، يجب ان تنتبه الى ما تكتب. الناس تقرأكم وتصدقكم. يجب ان تضع في اعتبارك دائما الاخرين لا انت فقط. وكانت ولا تزال تختم بالقول: ومع ذلك فالقرار لك. هذه مهنتك وانت ادرى مني؟

كلما قرأت صحيفة في الصباح وشاهدت على صفحتها الاولى خريطة الطريق العربية، اتذكر كلام زوجتي قبل 33 عاماً. وكلما قرأت عن معتقل جديد في تولوز او متفجر في مدريد او حمال قنابل في كندا، اتذكر ما صنعه بنا الاعلام العربي الحديث. وكيف نقلنا من مرحلة النهضة الى تمجيد الكهوف واعلاء الحل بالقتل. واتذكر كم دفع بعشرات الالاف من الشباب والاطفال الى الموت في الجزائر. لقد ادت احدث اختراعات العالم الى اعادتنا الى عصور الظلام. جاءنا القمر الصناعي فسلمناه الى تلامذة غوبلز. واعطينا معارف الانترنت فحولناها الى مجاهل وعممنا فلسفة القتل وثقافة الموت وخيار الابادة.

وكلما اصغيت الى مزعق يلف صدره بحزام مضاد للفكر والعقل والانسان، احزن على الذين سيموتون غداً وهم يبتهجون لصراخه ويفرحون «بمنطقه» ويتخدرون بتموجات حباله الصوتية. لقد لعب الاعلام العربي دوراً كبيراً في التجهيل. اما بسبب جهل مولود، واما بسوء نية مدفوع ومستأجر (تمليك حر)، واما بسبب الاسترضاء وتوسل اي شيء بأي ثمن.

هذا العصر المظلم هو وليد الزمن الذي حل فيه اهل الظلمة مكان اهل النور. العصر الذي لم يعد فيه احمد حسن الزيات وخالد احمد خالد وطه حسين ويحيي حقي وأحمد تيمور. ولم تعد البرامج التلفزيونية فيه للشيخ الشعراوي وأحمد فراج صاحب «نور على نور». ولم تعد وزارات التربية لرجال مثل عبد العزيز حسين. ولم تعد كتابة التاريخ ليد عالمة عاملة عادلة مثل يد حمد الجاسر. ولم تعد الجرأة الادبية جرأة نزار قباني على الهزيمة.

لقد تحولت امة بكاملها الى برنامج تلفزيوني يقدم لها كل شيء. يقرأ عنها ويفكر عنها ويقرر عنها ويكتب عنها ويهتف لنفسه. وخرج الى الضوء المصرخون والمزعقون والذين يتركون مسدساتهم خارج الاستديو لكي لا يصيب الرصاص خطأ عمال الاضاءة.

لست هنا في مجال كتابة اطروحة او بحث او دراسة. انها زاوية صغيرة اريد ان اقول فيها ان مثل هذا الاعلام ينقل الى العقول الطرية مثل هذه الثقافة. ومثل هذه الرسالة. ومثل هذه الدعوات. وهو المسؤول الاول عمن فقدنا وعن الزمن الذي اضعناه وعن الدعوة المرعبة الى الجهل والخروج من سباق العلم ومنافسة الحياة والبناء. اللهم رأفتك. لم يبق سواها امام هذه الشبكة من مصابيح العتم واعلاميي المسالخ.