العراق ليس حديقة للزهور.. فلماذا لا ننتظر قليلا..؟

TT

بالنسبة لشاعر عراقي واحد على الاقل يعتبر 9 مارس الذكرى الاولى لما يطلق عليه «اعادة مولد العراق كدولة حرة». ففي مثل هذا اليوم من العام الماضي دخلت اول قوة من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بغداد، وسط ترحيب هستيري من آلاف من العراقيين. فخلال دقائق سقط اخر تماثيل الطاغية صدام حسين الذي حكم العراق لمدة ثلاثة عقود، وانتهى حكم الرعب.

ان اي شخص، على معرفة بمشاعر العراقيين اليوم، يعلم ان الاغلبية العظمى منهم، تشارك الشاعر العراقي مشاعره (في واحدة من اول تحركاته اعلن مجلس الحكم العراقي اختيار يوم 9 ابريل يوما وطنيا جديدا للبلاد).

وخارج العراق، فإن 9 ابريل لا يعني الشيء نفسه بالنسبة لبعض العرب، ولقطاعات من الرأي العام الغربي، التي لا ترغب في تحرير العراق على يد الولايات المتحدة وحلفائها.

ففي اجتماع عقد أخيرا في بيروت وصف عدد من المحامين العرب، ممن تطوعوا للدفاع عن صدام حسين، عندما تجري محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية، اعتبروا يوم 9 ابريل «يوما حزينا للأمة العربية». وفي الغرب لا يزال هؤلاء الذين حاربوا من اجل منع اسقاط صدام حسين يؤكدون ان تحرير العراق كان خطأ، إن لم يكن جريمة.

وليس من المرجح ان ينتهي النقاش في وقت قريب، ويرجع ذلك الى وجود عراقين:

الاول، هو عراق الواقع: امة تعيد تشييد مجتمعها المدني من البداية، في مواجهة معارضة من قوى الظلام التي تخشى الديمقراطية لعديد من الاسباب.

والثاني، هو العراق الذي اصبح قضية في السياسات الداخلية الأميركية والاوروبية.

وبالرغم من العديد من التقلبات، وبغض النظر عن الأخطاء العديدة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال وشركاؤها، فإن خبرة عراق الواقع، خلال العام الماضي، تعتبر ناجحة، سواء بالنسبة للتحالف او بالنسبة للشعب العراقي ككل.

لقد تكهن معارضو التحرير بأن يحول سقوط صدام ملايين العراقيين الى لاجئين، وهو ما لم يحدث. بل على العكس من ذلك، عاد ما يقدر بحوالي 1.2 مليون لاجئ عراقي في الدول المجاورة، الى وطنهم. بينما يستمر التدفق على الداخل بمعدل 300 شخص يوميا. كما لم يواجه العراق المجاعة التي كان من المفروض ان تقتل ملايين العراقيين. ان من يتجول في اسواق أية مدينة عراقية اليوم يلمس توفر المواد الغذائية بأكثر مما كانت عليه منذ الثمانينات.

وتكهنت جماعات عارضت تحرير العراق بنشوب حرب اهلية، يقتتل فيها العراقيون فيما بينهم، ولكن هذا ايضا لم يحدث ايضا.

وبالرغم من جهود بقايا النظام السابق والمتعاطفين معهم في بعض الدول العربية، لإثارة نزاعات طائفية وعنصرية، فإن جماعات العراق المختلفة تمكنت من تجنب الوقوع في هذا الفخ.

ان هؤلاء الذين عارضوا التحرير، يدعون، ايضا، ان العراقيين لا يمكنهم تخيل أي نظام للحكم عدا الديكتاتورية.

وثمة وجهة نظر طرحها ماثيو باريس، الكاتب في صحيفة «التايمز» البريطانية، ورددها الكاتب توماس فريدمان في صحيفة «نيويورك تايمز»، تقول: ليس صدام هو الذي جعل العراق على ما كان عليه، بل العراق هو الذي خلق صدام حسين! وبكلمات اخرى، ان شعب العراق مجهز جينيا لخلق حكام متعطشين للدماء وفاسدين. غير ان هذا الادعاء تلاشى في مواجهة الواقع.

لقد انتهى شعب العراق لتوه من إعداد مسودة ما يعتبر اكثر الدساتير ديمقراطية في أي مكان في العالم العربي. وظهر عدد كبير من الصحف، بالإضافة الى تشكيل ستين من الاحزاب السياسية تمثل اوسع منظور لوجهات النظر السياسية في المنطقة.

الى ذلك، لم يؤكد الواقع التكهنات التي اشارت الى ان اي انتخابات في العراق ستنتهي إما بفوز الاسلاميين او القوميين المدمنين على الحكم الاستبدادي. ففي كل من انتخابات المجالس المحلية، التي اجريت في 17 مدينة عراقية حتى الآن، فازت الأحزاب الديمقراطية والعلمانية والشخصيات العامة. وكان ذلك ايضا حال الانتخابات التي اجرتها الجمعيات التي تمثل المهن الطبية والقانونية والتجارية.

وكشفت سلسلة من استطلاعات الرأي العام، بما فيها الاستطلاعات التي اجريت من قبل هؤلاء الذين يعارضون التحرير، ان الأغلبية العظمى تؤيد الديمقراطية.

وهناك ايضا بعض الاخبار الجيدة القادمة من جبهات اخرى في العراق:

ـ عاد نظام التعليم الى المعمل بقدراته القصوى لاول مرة بعد اكثر من عشرين سنة، مع التحاق عدد قياسي من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات.

ـ تم اصلاح البنية الاساسية المنهارة التي تركها صدام حسين اصلاحا جزئيا، بحيث تضمن حصول اغلبية العراقيين على امدادات منتظمة من مياه الشرب والكهرباء لاول مرة منذ الثمانينات.

ـ اعيد فتح جميع المستشفيات تقريبا، بينما عاد مئات من الأطباء العراقيين من المنفى للمساعدة في اعادة بناء النظام الصحي.

ـ كما ان النظام الاقتصادي اخذ يتحسن مع خلق 200 الف وظيفة خلال 12 شهرا، نصفها في الوزارات، وزادت قيمة الدينار العراقي بنسبة 65 في المائة مقارنة بعام مضى. وبإلغاء نظام الاقتصاد الموجه فتح العراق ابوابه امام الاستثمارات الخارجية. ولأول مرة منذ اكثر 50 سنة، تتدفق رؤوس الأموال الاجنبية على العراق.

ـ بدأ قطاع النفط الحيوي في التحسن. ففي الشهر الماضي تمكن العراق من انتاج الحصة الكاملة المخصصة له من قبل اوبك من النفط الخام، لأول مرة منذ عام 1979.

ـ تحولت 4 وزارات عراقية الى السيطرة العراقية الكاملة، مما يشير الى قدرة التكنوقراط العراقيين والإداريين على الحلول محل سلطات الاحتلال بأسرع مما كان متوقعا.

ـ بدأت عملية اعادة بناء بعض القرى، من بين 4 آلاف قرية دمرها صدام حسين في اطار استراتيجية التطهير العرقي، وهو امر يبدو واضحا، خاصة في جنوب شرقي البلاد، حيث امر صدام حسين بتجفيف الأهوار التي كانت موطنا لعرب تلك المنطقة.

ـ تم القبض على جميع كبار قيادة النظام البعثي السابق، فيما عدا شخصية واحدة فقط، بينما تم حل آلة القهر والفساد التي خلقها صدام حسين.

غير ان اهم عامل في الجانب الايجابي، بالنسبة لعملية التحرير، هو الحرية التي حصل عليها العراقيون. حرية تبدو عادية بالنسبة للغربيين، ولكنها بالنسبة لمعظم العرب تظل حلما بعيد المنال. ويشمل ذلك حرية التعبير عن الرأي، وتشكيل الاحزاب السياسية، وتكوين النقابات العمالية، وحق التظاهر ضد السلطة، وحق السفر داخل وخارج البلاد بدون تصريحات من اجهزة الأمن، وإنشاء شركات وأعمال بدون دفع اتاوات الى عصابات على طريقة المافيا التي تلقى تأييد النظام.

من المؤكد ان تحرير العراق لم يجعل العراق حديقة من الزهور، كما ان العراق ليس محصنا ضد قانون النتائج غير المتعمدة، وتغيرات الاوضاع. غير ان ما هو مهم حقا هو سير العراق في طريق اعادة البناء الوطني والديمقراطية. وعلينا الانتظار لمعرفة ما اذا كان العراقيون سيتمكنون من انتهاز الفرصة التاريخية المطروحة عليهم، نتيجة لمزيج من احداث هي في معظمها خارج سيطرتهم. لا توجد لدى معارضي التحرير أية قدرة، من أي درجة او مستوى، تمكنها من ان تعيد صدام حسين او أي شخص مثله الى السلطة في بغداد.

ان ما يهم في يوم 9 ابريل اكثر من أي شيء اخر، بالرغم من كل الصعاب الناجمة عن الهجمات الارهابية والمجرمين العاديين في بعض المدن، هو ان العراق حر. وبالنسبة لي فإن ذلك يعني ان العراق هو مكان افضل، بل ان العالم بأكمله افضل بدون صدام حسين، وهو النقطة الجوهرية في النقاش بين هؤلاء الذين يؤيدون تحرير العراق وهؤلاء الذين يستمرون في معارضته اليوم.