شرق أوسط لا يمكن تلخيصه في صفحتين أو حديث مدته 5 دقائق

TT

وجه انهيار مؤتمر الجامعة العربية في تونس ضربة جادة لهدف إدارة بوش المتمثل في إطلاق «خطة جادة» لتحقيق «شرق أقصى عظيم» للإصلاح، لطرحها على قمة الثماني الكبار التي تنعقد في يونيو المقبل. وقبل انهيار المؤتمر بيوم واحد، قال مسؤول في واشنطن: «أظن أن المشكلة الأكبر بالنسبة لخطط الإدارة الأميركية حتى الآن، هي ما إذا كان اغتيال الشيخ ياسين قد أثار غضب العرب، إلى الدرجة التي جعلتهم ينسون ما أطلقوه من وعود سابقة للتحدث حول الإصلاح، ويعتمد الكثير على ما سيخرج به هذا الاجتماع».

وليس واضحا كيف سترد الادارة الاميركية على الانتكاسة التي لحقت بخطتها، التي كانت موضع نقاش حام لغرز الإصلاحات الديمقراطية في المنطقة الممتدة من المغرب حتى أفغانستان. وتقول التقارير إن كولن باول، وزير الخارجية الأميركية، ظل يتشاور مع نظرائه العرب. وتحمل الرئيس المصري مبارك وولي العهد السعودي الأمير عبد الله إدارة المفاوضات المتوترة لتحديد تاريخ وموقع لانعقاد القمة. كما يسعى الرئيس مبارك لتسجيل نقاط مع الرئيس بوش والكونغرس قبل بدء زيارته الرسمية لواشنطن في الأسبوع المقبل، عن طريق عرض استضافة مؤتمر القمة العربي.

وعلى الرغم من أن «الخطة» هي اسم مغلوط، فإن بوش كان يُهدف الى أن توزَّع الوثيقة المنشورة، داخليا، كورقة للبحث على المسؤولين المشاركين في قمة الثماني الكبار لغرض مناقشتها ومراجعتها بينهم. وبأخذ الورقة كما هي، فإنه يمكن اعتبارها مزيجا من أفكار وبرامج يمكن أن تلعب دورا مرشدا في المرحلة الجديدة للمنطقة. والمحتوى قد تم تجميعه من برامج تم الكثير منها دمجه في «مبادرة الشراكة للشرق الأوسط».

والخطة، مثل «مبادرة الشراكة»، تتضمن ثلاثة مجالات هي: تعزيز الديمقراطية والحكم السليم، وبناء مجتمع معرفي، وتوسيع الفرص الاقتصادية. وهناك خاصية أخرى، هي أن الوثيقة الأميركية مثل الخطة الأوروبية، تمت صياغتها في واشنطن بدون أية استشارة مع سفارات البلدان المعنية. وقالت دبلوماسية أميركية، إنها مع عدد من زملائها، شاهدوا الوثيقة في جريدة الحياة أولا، وبعد تسريبها للصحيفة، بعثت وزارة الخارجية الأميركية برسالة تتضمن تفاصيل هذه الخطة للبعثات الدبلوماسية الاميركية.

ويبدو ظاهريا، أن الوثيقة هي ثمرة إلهام من تقرير التنمية البشرية العربي الذي صدر عن الأمم المتحدة في عامي 2002و2003. وتتضمن المقدمة إحصائيات كثيرة مأخوذة من هذه التقارير، وكلها يشير إلى «نقص الحريات»، وهذه صيغة جعلها بوش حجر الأساس لخطابه الذي ألقاه في نوفمبر 2003 ، حول ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بدور قيادي في مجالات التحول الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمنطقة. واعتبر الخطاب بشكل واسع نقطة ولادة وثيقة الإصلاح الاميركية.

وقام الرئيس بوش بإطلاق مخططه للإصلاح أمام معهد الانتربرايز الاميركي، الذي يعد حصن أولئك المنتمين الى المحافظين الجدد والمتحمسين للحرب ضد العراق في فترة حكم كلينتون. وهناك عشرون من خريجي هذا المعهد يحتلون مواقع داخل إدارة بوش، من ضمنهم ريتشارد بيرل (في مجلس الدفاع) ودوغلاس فيث (مساعد وزير الدفاع) وديفيد ورمستر (مستشار نائب الرئيس ديك تشيني).

وفي مدينة مثل واشنطن، حيث «المظاهر» تعد أكثر أهمية من الجوهر، كان موقع إلقاء الخطاب وسيلة للربط بين خطة الإصلاحات الهادفة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط والحرب في العراق. وكان الربط هو لخدمة الإدارة الأميركية، خصوصا بعد الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل داخل العراق، التي كانت الذريعة الأساسية لشن الحرب.

وقابل منتقدو بوش الخطاب بقدر كبير من الشكوك. وكان هذا عنصرا إضافيا لتعقيد جهود الإدارة الأميركية في الحصول على زخم يساعد في إطلاق مبادرة الرئيس بوش لتحقيق الإصلاح في الشرق الأوسط. واعتبر العديد من المسؤولين العرب هذا الموقع، أرضا معادية لإطلاق الخطاب فيه، على الرغم من ان إدارة واشنطن كانت تعتمد على الكثير من هؤلاء المسؤولين في جهودها لطرح خطتها للإصلاح.

رد الفعل العام على الخطاب لم يكن متماشيا مع الاستراتيجية الشاملة، التي وصفها مسؤولون في مجلس الأمن القومي، في مناقشاتهم، بأنها مثيرة للسخرية. قبل تسريب «الحياة» لهذه القضية، كان البيت الابيض يعتزم الطلب من دول عربية صديقة، ان تشير بشكل ما الى الحاجة الى الاصلاح، إلا ان مجموعة الدول الصناعية الثماني، ردت على نحو مفاجئ وبصورة غير عادية، بـ«مبادرة الشرق الاوسط الكبير».

دخل الرئيس جورج لعبة الاصلاح متأخرا بعض الشيء، فخلال العامين الاخيرين، كانت هناك مساع هادئة في عدد من الدول الاوروبية لتسهيل إجراء حوار حول الاصلاح مع كل دول المنطقة. وخلال الشهور التي سبقت حديث الرئيس بوش في معهد انتبرايز، كانت هناك مبادرة كندية دنماركية قديمة قيد الإجراء، بدأت تحقق تقدما ملموسا. ففي «المسار الثاني»، حول القضايا غير السياسية، مع ممثلين من دول المنطقة كافة، ظل دبلوماسيون اوروبيون واميركيون وأكاديميون من اوتاوا وكوبنهاجن يعملون على اساس نموذج هلسنكي للحوار الاقليمي، وناقشوا مجموعة من القضايا، بما في ذلك حقوق الانسان والأمن. وكانت مناقشات هلسنكي في عقد السبعينات من القرن الماضي، بين دول اوروبا الغربية ودول الكتلة السوفياتية السابقة، قد افضت الى إنشاء «مفوضية الأمن والتعاون الاوروبي»، التي اعقبتها، فيما بعد، «منظمة الأمن والتعاون الاوروبي». وساهمت تلك الحوارات والتطورات اللاحقة، في موت الاتحاد السوفياتي.

يقول دبلوماسي اوروبي، ان مجلس الأمن القومي انتبه الى احتمال اعتماد إطار جماعي قد يؤدي الى دخول «عناصر سيئة»، واضاف ان الادارة الاميركية تعتقد ان افكارنا مبالغ فيها في المرحلة الحالية. فالمحافظون الجدد، الذين ظلوا يعارضون، على مدى فترة طويلة، نموذج هلسنكي الاصلي، يعادون بعناد نفس الصيغة لمنطقة الشرق الاوسط الكبير، ذلك ان تطبيق النموذج نفسه على العالم العربي وما ورائه، يتعدى الكثير من الخطوط الحمر بالنسبة لعدد من كبار المسؤولين. فقد قال الممثل التجاري الاميركي روبرت زوليك، في مايو من العام الماضي، ان الولايات المتحدة ستدخل في اتفاقيات تجارية جديدة، فقط، مع الدول التي «تعرض تعاونا او سياسات خارجية وأمنية افضل»، أي ان التعاون مع سورية وايران امر غير وارد.

على الرغم من ان الشرق الاوسط الكبير ارتبط بمبادئ ديمقراطية اساسية في الماضي، فالرئيس بوش ربما يجد صعوبة حتى في الحديث حول هذه الخيارات التي كانت في السابق مقبولة ومستساغة. هذا هو موقف بوش حتى عندما يتحدث الى اناس تنظر غالبيتهم الساحقة اليه نظرة سلبية، فها هو مروان المعشر، وزير خارجية الاردن، الذي يعتبر دولة حليفة للولايات المتحدة، يقول بوضوح، انه «يتمنى ألا ترى الخطة النور» في قمة الدول الصناعية الثماني. ويمكن القول انه بدون مناشدة عربية واضحة ومباشرة في القمة المقبلة، فإن أمنية المعشر ربما تتحقق، وتكون ادارة بوش قد منيت بنكسة اخرى في محاولاتها الرامية الى إحداث تحول في منطقة الشرق الاوسط.

النصيحة التي يمكن تقديمها في هذه الحالة، هي انه يتوجب على الرئيس بوش ان يتوقف عن الحديث ويبدأ الاستماع، ليس لدونالد رامسفيلد وإنما الى الاصوات التي تتحدث في العالم العربي. وسيكتشف بوش، ان الشرق الاوسط مكان معقد لا يمكن ابتساره او تلخيصه في مذكرة من صفحتين او في حديث مدته خمس دقائق، ولكن اذا ابدى بوش، بدلا عن ذلك، احتراما لشعوب هذه المنطقة وثقافتها الغنية، فإنه ربما يكتشف ان له حلفاء حتى وسط الذين يبدون الآن ظاهريا ضده.

*مستشارة في مجال العلاقات العربية ـ الاميركية

(خاص بـ«الشرق الأوسط»)