التذكير بما أهمله التقرير

TT

منذ البداية سوف أقول بأن هذا التقرير ممتاز ومليء بالمعطيات الدقيقة والتحليلات الصائبة. ومن كثرة ما قرأت عنه هنا أو هناك، استخرجته من الانترنت لكي أطلع عليه، وقد وجدت انه حتى برزنسكي وبرنارد لويس وكبار الباحثين العرب يعتمدون عليه عندما يتحدثون عن هموم العالم العربي. هذا التقرير الضخم يضع الأشخاص في قلب التنمية البشرية بكل جوانبها: من اقتصادية، واجتماعية ومدنية، وسياسية، وثقافية. فالتنمية غايتها الإنسان في نهاية المطاف.

ما الذي يقوله لنا التقرير في خطوطه العريضة؟ انه يتحدث أولاً عن الايجابيات التي تحققت في العالم العربي أثناء العقود القليلة الماضية وذلك قبل أن ينتقل إلى السلبيات فيقول: انه قد حصل تقدم كبير في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية: كالصحة، والسكن، والتعليم، وزيادة عمر الفرد، وانخفاض معدل الوفيات عند الأطفال، وكل ذلك يقاس إلى الماضي بالطبع، وهو تقدم غير كاف ولا يشمل الأرياف مثل المدن.

ثم يشير أيضا إلى السلبيات ويقول: خلال العشرين سنة الماضية كان معدل ارتفاع دخل الفرد هو الأضعف في العالم اذا ما استثنينا افريقيا السوداء أو معظم مناطقها. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن معدل النمو الاقتصادي الذي لا يتجاوز حالياً 0.5%. اذا ما استمر الأمر على هذا النحو فإنه يلزمنا 140 سنة لكي يتضاعف دخل الفرد في العالم العربي! هذا في حين انه لا يلزم أكثر من عشر سنوات في بقية مناطق العالم لكي يحصل هذا التضاعف. بالمقارنة فإن النمو الاقتصادي في الصين يتجاوز 10% مثلاً. وبالتالي فهناك ركود اقتصادي في العالم العربي بالإضافة إلى الركود السياسي والاجتماعي الذي سنتحدث عنه بعد قليل. ولكن التقرير يهمل الركود الفكري أو الفلسفي بالمعنى الذي سنوضحه في نهاية المقال.

من المعطيات الأخرى التي تلفت الانتباه هو أن عدد سكان العالم العربي بدوله الاثنتين والعشرين وصل عام 2000 إلى 280 مليون نسمة. وسوف يصل عام 2020 أي بعد خمسة عشر عاماً فقط الى 459 مليونا! وهذا عدد كبير ويعني ان البشرية العربية سوف تشكل احدى الكتل الاساسية على مستوى العالم. واذا كنا لا نشكل الآن الا 5% من سكان العالم فإننا قد نشكل غداً 10%. ولكن العبرة ليست بالكم فقط وإنما بالنوعية أيضا. والنوعية سوف تأتي، إن شاء الله، مع انطلاقة المشروع الحضاري العربي.

لكن ما هي السلبيات الأساسية التي يعاني منها العالم العربي؟ طبقاً للتقرير فإنها تتمثل في ثلاثة أشياء: انعدام الحرية، وضع المرأة المتدني أو المهمّش، ونقص المعرفة والعلم. فالبلدان العربية هي الأقل حرية إذا ما قارناها ببقية بلدان العالم. فمساهمة المواطنين في الحياة السياسية لا تزال ضعيفة جداً. ووسائل الإعلام مقيدة أو حرة جزئياً في أحسن الأحوال.

ومساهمة المرأة العربية في الحياة السياسية والاقتصادية هي الأضعف قياسا الى جميع بلدان العالم بما فيها بلدان افريقيا السوداء أو أميركا اللاتينية. وبالطبع فلا يمكن مقارنتها بالدول المتقدمة كفرنسا أو المانيا مثلاً. وهناك امرأة عربية من أصل اثنتين لا تعرف القراءة والكتابة. وبالتالي فنصف المجتمع عندنا معطل أو مشلول. وهذا ما ينعكس سلباً على درجة التطور، أو عدم التطور بالأحرى، في المجتمعات العربية.

وأما فيما يخص تمويل البحث العلمي والجامعي في العالم العربي فيبدو انه من أكثر المستويات انخفاضاً في العالم. فنحن لا نصرف عليه من المدخول الإجمالي المحلي أكثر من نسبة 5.14%، هذا في حين أن اليابان تصرف 2.9% من ميزانيتها، وأما كوبا فتصرف 1.62%. والواقع أننا لا نساهم في تقدم المعرفة في أي مجال كان. ولولا انه يوجد بعض كبار العلماء العرب في جامعات الغرب لكان إسهامنا في الحضارة المعاصرة صفراً! هذا في حين أن عدد الباحثين في مصر لا يتجاوز 3782، وفي السعودية 1915، وفي الجزائر 362 وفي الكويت 284 أما البلدان العربية الأخرى فلم تذكر حتى مجرد ذكر.. والآن نصل إلى الترجمة. وهنا نفاجأ بأرقام مذهلة، فالعالم العربي كله، من محيطه الى خليجه، لا يترجم اكثر من 330 كتاباً في السنة. هذا في حين ان اليونان وهي اصغر بكثير من العالم العربي تترجم خمسة أضعاف هذا العدد. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن اسرائيل التي تترجم ما لا يقل عن 15000 كتاب في السنة. وهو رقم ضخم بالقياس الى عدد سكانها الذي لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة على اكثر تقدير. فهل يعقل أن يترجموا أكثر من 280 مليون عربي؟! وأما عن اسبانيا فحدث ولا حرج. فإذا صحت التقارير فإنها تترجم كل عام مائة الف كتاب! وهو يعادل جميع ما ترجمه العرب في تاريخهم كله منذ عهد المأمون وبيت الحكمة الشهير قبل ألف ومائتي سنة. وهذا يعني أن العرب ترجموا أقل من مائة كتاب في السنة طيلة كل هذه الفترة المديدة.

ولكن ينبغي هنا إدخال بعض التصحيحات، فالواقع ان الترجمة كانت غزيرة في عهد المأمون وما تلاه ثم توقفت طيلة عصور الانحطاط التي استمرت ستة أو سبعة قرون (من القرن الثالث عشر وحتى التاسع عشر). وبعدئذ استؤنفت على يد محمد علي الذي افتتح مدرسة الألسن في مصر في أوائل القرن التاسع عشر وسلمها لرفاعة رافع الطهطاوي كما هو معلوم.

وبالتالي فنحن ندفع حالياً ثمن انقطاعنا عن حركة الترجمة والفكر طيلة سبعمائة سنة. فمن نام على التاريخ طيلة كل تلك الفترة لا يستطيع أن يستدرك تأخره في سنوات معدودات.

ولكن الشيء الغريب العجيب هو أن بعض المفكرين العرب يعترضون على قضية الترجمة ويقولون: نحن ترجمنا بما فيه الكفاية منذ القرن التاسع عشر، نحن لا نستطيع ان نعيش على الترجمة طيلة حياتنا كلها. نحن لا نقبل بأن نظل مقلدين للغرب باستمرار. وانما ينبغي ان ننتقل من مرحلة الترجمة إلى مرحلة الإبداع المباشر! هذا الكلام سمعته من بعض المفكرين أكثر من مرة، وناقشتهم فيه بدون جدوى. ولكن لا أريد ذكر أسماء.

وفي رأيي أن من يقول هذا الكلام يعرقل التقدم العربي بدلا من أن يسرّعه. فالعالم العربي لم يستوعب بعد الثورات العلمية والفلسفية التي حصلت في الغرب على مدار القرون الأربعة المنصرمة. ولا اعتقد بأن مفكراً غربياً واحداً مهما علا شأنه يستطيع ان يقول بأنه هضم علم غاليليو ونيوتن وآينشتاين، أو استوعب فلسفة كانط وهيغل ونيتشه.. ولا أعتقد أن اللغة العربية قد استوعبت كل مصطلحات العلم الحديث. فلماذا المكابرة إذن؟ لماذا لا نعترف بحقيقة واقعنا وتأخرنا في مجال المعرفة؟ ولمصلحة من نغطي على نواقصنا وعيوبنا؟ وهل يمكن لأمة أن تتقدم بدون أن تعرف قوتها بالضبط على خارطة المعرفة و حجم المسافة التي تفصلنا عن الأمم المتقدمة، وبالتالي فإن الترجمة أمامنا وليست خلفنا. وكما ان نهضتنا القديمة في أيام الرشيد والمأمون قامت على أكتاف الترجمات اليونانية التي كانت تشكل الحداثة العلمية والفلسفية في وقتها، فإن نهضتنا الحديثة سوف تقوم على أكتاف الترجمات التي تنقل العلم الأوروبي الى لغتنا العربية، فأوروبا هي الحداثة في عصرنا الراهن.

وعندئذ تمتلئ المكتبة العربية بالمراجع في شتى العلوم والاختصاصات: من علم التاريخ الى علم الاجتماع الى علم النفس والتحليل النفسي، الى علم الاقتصاد، الى علم الانثربولوجيا، الى علم الأديان المقارنة، الى علم الاستشراق بالمعنى الاكاديمي العالمي للكلمة وليس بالمعنى المغرض أو السطحي، وبالتالي فإن الحداثة العربية لن تتشكل الا بعد ان تكتمل عملية الترجمة هذه ويتم تمثلها وهضمها. بعدئذ تجيء مرحلة الإبداع والابتكار وليس قبلها، الإبداع يجيء بعد التراكم المعرفي والتفاعل مع الآخرين واعتصار كل المعلومات والمعطيات. وأما الآن فلا يوجد اي مرجع موثوق عن بعض العلوم في لغتنا العربية، وآسف لقول هذا الكلام.. وبالتالي فلا تستطيع ان تتوصل الى العلم والمعرفة الا اذا كنت تتقن إحدى اللغات الأجنبية الحديثة: كالانجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية. إذا كنت تعرف العربية فقط فأنت أمي أو شبه أمي! وما ينقص تقرير الأمم المتحدة هو هذا الشيء وأقصد به التنبيه إلى خطورة المسألة التالية: وهي ان انطلاقة الأمم لا تتم إلا بعد أن تعزّل نفسها من المعرفة الخاطئة، أو المعرفة القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب.

أخيرا: نستطيع أن نسير على هدى من أمرنا فنأخذ من الحداثة جوهرها ونطرح صرَعاتها وقشورها. فجوهر الحداثة هو الحرية الفكرية، والعقل النقدي، ومعرفة أين تنتهي حدود العقل لكي تبتدئ حدود الإيمان. فنحن مع الحداثة المؤمنة والايجابية، لا الحداثة الملحدة والسلبية أو العدمية.