عندما سقط «القائد الضرورة»

TT

نادرا ما يعيش الانسان لحظة مثل تلك التي حبس خلالها انفاسه، وهو يرى تمثال صنم الرافدين يهوي على الارض في ساحة الفردوس ببغداد، يوم التاسع من ابريل (نيسان) 2003. ومن حسن الحظ ان هذا الحدث وقع في زمن الفضائيات العربية والدولية، وشاهده الملايين عبر الكرة الارضية، فقد كان جزءا من خبرة الانسانية برمتها، وصفحة مليئة بالعبر في سجل تحرر الشعوب، وفضيحة مدوية للدكتاتورية والطغيان. لم أفاجأ بكل هذه الكتابات المعادية للتحولات التي فجرها سقوط نظام بغداد. فقد اجتمع ضد الحدث الجديد كاتب قمعي يتظاهر بمناصرة الحرية، وكاتب يسبح في دنيا المثاليات القومية والإسلامية، وثالث غارق في السذاجة السياسية. فالبعض لم يكن يهمه مصير الشعب العراقي، ما دام نظام صدام حسين يلعب دورا أساسيا في «مساندة النظام العربي» ويشكل احتياطيا رئيسيا في «معركة العرب ضد العدو الصهيوني»، ولك ان تتصور ابعاد هذا الطرح اللاإنساني الظالم، الذي يريد إدامة عذاب شعب كامل في العراق، ربما لنصف قرن مقبل، وتحول البلاد الى مملكة وراثية لقصي وعدي وأحفاد صدام حسين، بانتظار حل القضية الفلسطينية! منظمة التحرير الفلسطينية وفعاليات فلسطينية كثيرة لم تقف بنفس القوة ضد ضياع الكويت عام 1990، ولا قالت بأن بقاء الكويت مثلا هام وأساسي لتمويل النظام العربي ودعمه! البعض الآخر اعتبر الحرب كلها حربا استعمارية تقليدية، تزحف خلالها أميركا على منابع ومكامن البترول، فتنهب ثروات العراق بلا حسيب أو رقيب، وقد قيل هذا الكلام وما هو أشد وأبلغ عام 1990، عندما كدست الولايات المتحدة وقوى التحالف نحو نصف مليون جندي في المنطقة لتحرير الكويت، وقال المثقفون العرب الكثير عن مصير البترول الكويتي والجشع الاستعماري الأميركي، وعن الأمركة والتغريب وضياع المنطقة.

وها هي الكويت ودول الخليج تبيع النفط لدول العالم في المشرق والمغرب، وللولايات المتحدة نفسها، بنفس الأسعار التنافسية الدولية. ولو كانت الإدارة الأميركية قد اشترطت علينا سعرا مخفضا خاصا مقابل التحرير لرضينا في الكويت من دون تردد! جماعة ثالثة من كتاب العالم العربي ومحطاته الفضائية، قالت بأن إسقاط نظام بغداد مقدمة لإقامة دولة اسرائيل الكبرى، من الفرات الى النيل، وهؤلاء للأسف لا يأخذون في الاعتبار الاتفاقيات الحدودية بين مصر واسرائيل، وبين الاردن واسرائيل، وبين لبنان واسرائيل، وبين الفلسطينيين واسرائيل. وذا كنا على هذه الدرجة من الخوف والوطنية والحماس، فلماذا لا نطور بلداننا، ونشيع فيها الديمقراطية والحرية الاقتصادية والتنمية العصرية، كي لا يضطر 120 الف فلسطيني للعمل في اسرائيل، بل حتى في بناء السور الذي تقيمه حكومة شارون وسط اراضي الشعب الفلسطيني. وما زلت اذكر ذلك الفلسطيني الذي ظهر على شاشة احدى الفضائيات مع «الكرين» أو الرافعة التي يعمل عليها في بناء ذلك السور الشاهق وهو يقول: «انني على استعداد لأن أعمل بنصف الراتب في أي دولة عربية». ولم اسمع ان احدا استجاب! فئة رابعة من الكتاب العرب، في الاردن ومصر، راحت تتباكى على عروبة العراق، وضياع الاندلس، وزحف الأحزاب الباطنية، وتفتت البلاد، وهيمنة الأكراد. هؤلاء للأسف من مؤيدي الوحدة القومية التسلطية ممن يحرصون على الظاهر ولا يكترثون بالباطن. ويناصرون اقسى الانظمة العربية التسلطية ما دام يحافظ على (وحدة) البلاد والمظاهر القومية، ولقد علمتنا تجاربنا وتجارب البشرية ان الوحدة لا تدوم مع الطغيان، ولا يمكن للعرب والأكراد والتركمان والشيعة والسنة والمسيحيين ان يعيشوا متحدين متآزرين، ما لم يكونوا متساوين في الحقوق والواجبات. ولا شك في نظري ان تفتيت البلدان العربية، واندفاع الأقليات خلف اوهام الاستقلال خطأ كبير حتى من الزاوية الاقتصادية والمصلحية البحتة، ولكن التسلط القومي كذلك. كما رأينا في التجربة الروسية واليوغسلافية لا مستقبل له. ثم أي فائدة سيجنيها العراق من العروبة والتضامن ورص الصفوف، ان كان شعبها مقموعا وحرياته مصادرة، والبلاد من الشمال الى الجنوب تعج بالمقابر الجماعية؟ بل أليس مستغربا حقا، ان نحتاج الى جيوش عشرين دولة عربية لنوقع الهزيمة بجيش دولة واحدة؟ العراق الجديد رغم كل الآلام والمصاعب، قيد الظهور. وكل عقلاء العراق، وما أكثرهم، ممن يقارنون بين نظام صدام والنظام الجديد، يشعرون رغم كل المشاكل والمخاوف بالتفاؤل،* اللهم الا من عاش منتفعا من النظام المنهار، وتحطمت نهار التاسع من ابريل احلامه. إن نجحت تجربة بناء العراق كما نجحت تجربة التحرير، سنكون أمام واقع جديد لم يعرفه العراقيون في «ثوراتهم» وانقلاباتهم، ولا عاشته الشعوب المجاورة، فالعراق الجديد صدمة للتراث التسلطي في العالم العربي لا جعله الله يفيق منها! فأينما نظرت في البلدان العربية وجدت جمودا وتخلفا وتسلطا، وطاقات بشرية غير منتجة وغيابا كبيرا عن واقع العصر، فلعلنا شعوبا ومسؤولين، نشعر بأن القرن الواحد والعشرين قد بدأ. والعراق الجديد، إن عرف العراقيون كيف يبنونه، سيكون طليعة تجربة عربية جديدة في مجال الديمقراطية السياسية والحرية الاجتماعية والتعددية القومية والمذهبية. إنه كذلك اختبار عسير للتسامح الديني والمذهبي، وربما بالذات لشيعة العراق، إذ أن عليهم ان يدركوا مسؤوليتهم الكبرى في اشاعة التسامح والاعتدال، وضبط الاتجاهات الطائفية المدمرة، فمن المزعج حقا ان تتواتر الاخبار عن تسلط رجال الدين على النساء وعلى غير المسلمين، وعن فرض الشباب والمجموعات الدينية لآرائهم في الجامعات ضد بقية الطلاب وأساتذة الجامعة، وعن اندفاع الاحزاب خلف نماذج الحكم التسلطية الدينية، التي حطمت بعض جيران العراق.

العراق المقبل، كما نحلم به، تفوق نوعي على سائر المفاهيم القديمة، والتصورات الأحفورية، التي روجت لها مختلف القوى السياسية المتنافسة، والتي يحاول الكتاب والمثقفون وأهل الفضائيات العربية وجند الغوغاء والتجهيل من الاعلاميين تخويف الجمهور بها. بقي أقل من مائة يوم لتسلم العراقيين الجدد زمام الامور في بلادهم. أمامهم تلال من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا بد من حلها. ومن حول العراق وداخله دول وتنظيمات تخريبية ستبذل المستحيل لإفشال التجربة وخنق الوليد الجديد وفي الحياة الثقافية والإعلامية والفضائية العربية حرب لا هوادة فيها، ممولة ربما بلا حساب، لاجتثاث التاسع من ابريل ومدلولاته من حياة المنطقة. على العراقيين ان يتقدموا نحو مستقبلهم بثقة وشجاعة ولا يبالوا بكل هذا الصراخ من حولهم. فالكثير من هؤلاء أحد اثنين: أوّلٌ بارت بضاعته..وثانٍ.. أُخذت منه رضاعته!

* كاتب كويتي