أدوية للسلوك والتعامل اليومي

TT

يذكر (دانيل جولمان Daniel Goleman) في كتابه (الذكاء العاطفي Emotional Intelligence) أن (تيري روبنسون) كان يركب قطار احدى ضواحي طوكيو، عندما صعد إلى القطار رجل ضخم الجثة مخمورا يترنّح قذر الملابس، هجم على الناس بالبذيء من القول واللّكمات ثم أمسك العمود المعدني وبدأ يزأر، يقول (تيري)، الذي كان قد جاء خصيصاً لليابان في الخمسينات لاتقان المصارعة اليابانية من نوع (الايكيدو Aikido): إن مدربه كان يكرر على سمعه: (إن المصارعة اليابانية هي فن المصالحة، فمن يفكر في القتال ينفصل عن الكون، لأنك لو حاولت السيطرة على غيرك فقد هزمت بالفعل. نحن نتعلم رياضة الايكيدو لكي نعرف كيف ننهي الصراعات لا كيف نبدأها).. ولذا فقد استعد للدفاع عن نفسه فيما لو هاجمه السكير. وكان تيري قد خرج لتوه من تدريب طويل وبإمكانه صرع السكير بضربة واحدة. وحينما التفت المخمور إليه صاح: أجنبي قذر. واقتربت ساعة الفصل بينهما، وأنذر الجو بحفلة مصارعة. لكن في هذه اللحظة بالذات، جاء صوت عال من ركن المقطورة، ولكن في غاية المرح (هيه.. أنت)، التفت السكير فإذا برجل يبلغ السبعين يلبس الكيمونو يشير إليه بالاقتراب منه، سخر السكير منه وقال متهكماً: عليك اللعنة، ولماذا أتحدث معك؟، قال الرجل العجوز: ماذا كنت تشرب؟، أجاب: كنت أشرب الساكي، ولكن ما شأنك أنت؟، قال: إنه شيء عظيم، هل تعلم أنني أشرب الساكي كل ليلة مع زوجتي وتحت شجرة البريسمون. انفرجت أسارير السكير وانبسطت قبضة يده، وقال دون تفكير: أنا أحب شجرة البريسمون أيضاً. رد الرجل العجوز: لا شك أن عندك زوجة رائعة، انفجر السكير باكياً وهو يقول: لقد فقدت زوجتي.. وانطلق يحكي قصة فقد زوجته ووظيفته وبيته، وأنه خجل من نفسه. وعندما غادر تيري القطار كان السكير مستلقياً في حضن العجوز مثل القط الأليف وهو يتابع له الحكاية.

يقول عالم النفس (برايان تريسي) في كتابه (أسس علم نفس النجاح): إن كل جهاز نتعامل معه له كتاب تعليمات لتشغيله (Manual Instruction)، إلا الإنسان لأنه أعقد من أي جهاز ويتعالى على الآلية، وله قوانينه النوعية الخاصة التي تضبط نشاطه. وأن نسبة الناجحين في الحياة لا تتجاوز خمسة بالمائة من الناس، وأن هناك ستة مؤشرات للنجاح أهمها: (1) (راحة البال)، ويحددها بخلوّ المشاعر من الذنب أو الخوف والحزن. إضافة إلى (2) (تحقيق مستوى عال للطاقة). و(3) (تحقيق علاقات اجتماعية حميمة)، التي تشكل %85 من كل متعة الحياة، ويبقى %15 للكسب والربح. وهذا هو السر في خسارة المهاجرين للبهجة في حياتهم مع كل ظروف الرفاه في المجتمع الجديد بسبب موتهم الاجتماعي، فالنشاط الاجتماعي يلعب دوراً حيوياً لصاحبه حتى لو كان في السجن أو العذاب المهين. ويضاف إلى ما مرّ (4) (الكفاية المالية)، وهي نسبية فقد لا يكفي دخل مائة ألف دولار في العام لإنسان مقابل عشر معشاره لآخر يحمل القناعة. وكانت (جاكلين كندي)، التي تزوّجت من (أوناسيس) تنفق أكثر من خمسين ألف دولار في اليوم ولم تكن سعيدة. و(5) (وجود أهداف ذات قيمة في حياة الإنسان). واخيرا (6) (الشعور بتحقيق الذات)، وحول هذا المعنى الأخير رسم عالم النفس (ابراهام ماسلو) من مدرسة (علم النفس الإنساني) هرمه حول (الحاجيات الإنسانية)، حيث وضع في قمة الهرم تحقيق الذات وقال إن %5 فقط من الناس يصلون إلى هذه الإطلالة الرائعة من فوق الهرم، أما بقية الناس فتعيش أبد الدهر بين الحفر. من هنا كان وضع قواعد للحياة ذات أهمية، فهي تضع في أيدينا مفاتيح أمام أقفال الصعوبات لفتحها. وأقدّم للقارئ عشر أفكار للتعامل مع التحديات التي تواجهنا كل يوم: (1) ابتسم: فالابتسامة لا تكلف شيئاً وعضلات الابتسام في الوجه تتطلب جهداً أقل من عضلات العبوس والتكشير. وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان قليل الضحك كثير التبسّم. يجب أن ندرب أنفسنا على إطلاق ضحكة بريئة إذا تعقدت الأمور و(تلخبطت)، فهذه تعطي طاقة نفسية جيدة لدخول المشكلة ورؤيتها من زاوية جديدة. ومن المعروف في علم النفس أن رؤية أي مسألة في ضوء جديد يقدم حلاً متطوراً لها، فلا شيء أفسد على الروح من التصلّب. وأخطر أمراض الشرايين هو التصلب الشرياني (Arteriosclerosis)، وإذا كان للشرايين أمراضها فللقلوب عللها، فيمكن للروح أن تتصلب بالمرض تماما كما في الشرايين (Psychsclerosis)، فكما تجف وتتيبس العروق، كذلك العقل يتجمد بأشد من جليد القطب الشمالي. ويمكن للفكر أن يتحنّط بأكثر من الماموث في صقيع سيبيريا. وتقسو القلوب فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار.. (2) كن هادئاً: فالتوتر يزيد من إفراز الادرينالين في الدم ويرفع الضغط ويؤذي الشرايين ويعطب القلب ويسمم البدن ويعكر المزاج ويظلل سماء التفكير بسحابة قاتمة فيستلب منا الإبداع. وأخطر ثلاثة انفعالات هي الغضب والقلق والاكتئاب وكلها مؤثرات سلبية على العضوية، فلماذا لا نفهم هذا الحديث المستتر لكياننا الداخلي المغيب عنا؟، ثم إن العقل يعمل بأفضل شروطه عند الارتخاء وليس الانفعال. وتدفق الأفكار يأتي على أحسن وجه ليس بضغط الدماغ، بل تركه يتنفس براحة. وإذا كان المسمار يقتحم الحائط بقرعه بالمطرقة، فإن الأفكار تتولد مع ارتخاء الأعصاب، فكل طاقة لها طريق للولادة. إن وضعنا النفسي يكون في أسوأ شروطه مع انهيارات الفزع وانفجار مرجل الغضب وجنون العنف وكسرة الحزن وضباب الشهوة. (3) تفهم المشكلة: فالمشكلة ليست فيها بل في موقفنا منها، ويجب أن نعلم أنفسنا حذف كلمة (مشكلة) من قاموسنا اليومي واستبدالها بكلمة (خبرة جديدة)، والمشاكل هي ألوان من (التحدي) تستنفر عندنا الإرادة وتصقل الخبرة وليست حفراً عميقة نهوي فيها. وعندما فشل المخترع العظيم (توماس اديسون) في خمسة آلاف تجربة قبل إضاءة العالم لم يعتبر عمله فشلاً بل كان يردد: (أنا لم أفشل خمسة آلاف مرة.. أنا تعلمت خمسة آلاف طريقة جديدة). علينا أن نفهم أنه لا تشق الطرق الجديدة من أول ضربة، ولا تمشي السيارات على طريق معبد من أول تخطيط له. فهناك كم هائل من العمليات قبل أن يصبح معبداً جاهزاً للاستخدام. وكل أحداث الدنيا تولد من كم معقد من التفاعلات والأشياء بسيطة ومعقدة بآن واحد. والكون يقوم على التعددية والوحدة. والأرض تسقى بماء واحد ويفضل اللّه بعضها على بعض في الأُكل. وما نسميها مشاكل هي في الواقع حوافز لرفع مستوى الطاقة عندنا وإبقائنا في حالة يقظة، لذلك كانت الحياة مبنية على مخططات من مستوى السكر في الدم إلى البورصات المالية إلى مخطط صعود وهبوط الحضارات. ليست هناك مشكلة بدون حل وابحثوا تجدوا واقرعوا يفتح لكم واطلبوا تعطوا. (4) أحسن الاصغاء وفن الاستماع: فنحن قد اعطينا اذنين ولسانا واحدا لنسمع اكثر مما نقول فيجب ان ندرب انفسنا على صيام من نوع جديد ليس بالانقطاع عن الطعام بل عن الثرثرة واللغو. ومريم صامت عن الكلام «إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا». فهل يمكن ضبط لساننا لأطول فترة ممكنة؟ وهل يمكن ان ندرب انفسنا ان نسمع للنهاية قبل ان نجيب. ان الشرط الاول في ادب الحوار هو الاستماع ويخضع بدوره لقواعد خاصة به، فيجب ان لا نصخب ولا نعجب ولا نشغب ولا نجعل الدعوى دليلا. وحديث الطرشان هو حديث شخصين بنفس الوقت فكل يتكلم لنفسه وهو طريق مسدود. ومعظم مشاكلنا تخضع لقاعدة حوار الصم ولذا بقيت معلقة الى اجل غير مسمى، وبهذه الطريقة نتحلل الى ذرات رمل في صحراء لا تمسك الماء ولا ينبت فيها الزرع. ولم يخلق الله الانسان من قبضة رمل بل من طين لازب. وتنبت التربة الاوروبية الزرع الاخضر بشكل رائع بفعل تماسك تربتها الطينية. والمجتمع (الطيني) المتماسك يخرج منه نبات خضر وجنات معروشات وغير معروشات. أما المجتمع الرملي الصحراوي الذي يتحول فيه الناس الى ذرات رمل فهو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. (5) عبِّر ببساطة ووضوح: فلا شيء مزعج كالابهام والتعقيد والالتفاف على الواقع بالكلمات في تقليد لاعمال السحرة الذين ينطقون ولا يعبرون ويتكلمون ولا يفهمون. وهذا يذكرنا بمشكلة الحداثيين الجدد، فهم يتكلمون لانفسهم بلغة ومصطلحات مقتلعة من بيئة اوروبية مترجمة الى لغة جديدة تفتقر واقعها الملائم لها فلا تنبت. من امثال كلمة الديمقراطية والبرلمان والصحافة التي تمثل اشكالا وهمية من حقائق اوروبية، والكثير الذي ينقل من بيئته ليزرع في بيئة مغايرة تموت روحه ويحافظ على شكله في قفص محنط من البيولوجيا. (6) تعلم طرح السؤال السليم: فالسؤال الصحيح يشكل نصف الاجابة والسؤال يفتح مغاليق الاجابة. يقول برونوفسكي صاحب كتاب «ارتقاء الانسان»: ان الاسئلة البريئة والشفافة التي كان يلقيها آينشتاين كانت (اجاباتها تحمل في طياتها الكوارث) لإنها هدم البنى الفكرية للعالم القديم. وهذه الطفولة الدائمة والبريئة من الدهشة والسؤال هي التي تحمل بذور النمو. (7) فرق بين المعقول واللامعقول: فلا تصدق كل ما يقال، ولا تعبر بسخافة واستخفاف بل بمسؤولية، والنطق ليس قذف هواء وتصويتا ابله، بل هو معان تتدفق من ملكوت الفكر تمتطي متن الفيزياء على ظهر الموجات الصوتية، والحوادث تخضع لجدلية خاصة بها فيجب مقارنة الاحداث بنظائرها وسبرها (بمعيار الحكمة والرجوع الى قواعد السياسة والعمران والاحوال في الاجتماع الانساني ومقارنة الشاهد بالغائب والحاضر بالذاهب كي يأمن فيها الانسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق) على حد تعبير ابن خلدون. (8) املك قدرة الاعتراف بالخطأ والاعتذار بدون تأخير: الفرق بين الشيطان وآدم هو عدم الاعتراف بالخطأ في رحلة مع الفقر والفاحشة واللاتوبة. أما الاعتراف بظلم النفس الذي مارسه آدم وزوجه فقد امتلك بهذه الطاقة قدرة التصحيح الدائم للفوز بجائزة الخلافة. فالنقد الذاتي هو آلية التطهير الدائم من العفن الداخلي وقدرة تصحيح الاخطاء والارتفاع بدون توقف. (9) التغيير شيء حتمي: صدقت بهذه القاعدة الاخبار ودشنت على متنها فلسفات كاملة. فالصيرورة تأخذ برقبة البيولوجيا وتعتلي متن الكون كقانون لا محيص عنه او مهرب. من حيوان الخلد الى المجرات، ومن أبسط الافكار الى اعظم الامبراطوريات. وتنقل الانسان من طور الى طور، من الضعف الى القوة ومن القوة الى المشيب ومن الحياة الى الموت وبالعكس. (10) لا تنجز عملين في وقت واحد: فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، والتتابع سنة كونية في انجاز الاعمال. وازدحام العملين في قناة واحدة فوضى وتعضل فلا تولد وحدة العمل. واهمية هذا الكلام لمسته اثناء اقامتي في المانيا حيث يواجه الفرد مشاكله الي*eظ] على هذا النسق. فقد لفت نظري وقوف الناس بهدوء على شكل رتل فلم ار مناظر التدافع وتكوم اللحم البشري ولاحظت ان الموظف كل وقته ووجهه للمراجع الاول فإذا خاطبه آخر لم يجبه حتى يختم عمله بقوله: هل هذا كل شيء؟ هل عندك المزيد من الاسئلة؟ تكررت هذه المشاهد حيث توجهت، في البريد والبنك والدائرة الحكومية. ان الموظف الالماني حريص على حسن العمل اكثر من كثرته «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» في الوقت الذي لا يستفيد العالم الاسلامي من الآية لانه يقرأها بعيون الموتى. وهي اشكالية ضخمة في التعامل مع النصوص. والحديث الذي يذكر ان الايمان بضع وسبعون شعبة ادناها اماطة الاذى عن الطريق نطبقه منكوسا فإذا جلسنا في مكان تركنا آثار تخلفنا وراءنا في كومة من القاذورات.

[email protected]