دفاعا عن الدكتور الفيلسوف

TT

هدأت العاصفة الهوجاء التي اثارتها سيرة د. عبد الرحمن بدوي الصادرة العام الماضي او تكاد، وعاد المهرجون والغوغائيون الى مواقعهم بعد ان تعبوا صراخا وضجيجا ليشهروا من جديد هراواتهم الغليظة في انتظار ضحية اخرى ينقضون عليها بشراسة الذئاب الجائعة ليهشموا عظامها وينهشوا لحمها كما هو حالهم دائما وابدا.

وقد وجد المهرجون والغوغائيون الذين تكاثروا خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الخراب الثقافي والفكري والاخلاقي الذي يعيشه العالم العربي حتى انهم تحولوا الى قوة ضاربة في سيرة د. عبد الرحمن بدوي، ما يرضي نزعاتهم السادية والتدميرية والتخريبية فراحوا يملأون الدنيا زعيقا ناعتين صاحبها بأقبح النعوت واصفينه بأبشع الاوصاف، نافين عنه كل الخصال الحميدة والنبيلة التي تحلى بها خلال مسيرته العلمية والفكرية الطويلة، محاولين الحط من شأنه هو الذي امضى قرابة الستين عاما في خدمة الثقافة العربية فكرا ونقدا وفلسفة وترجمة وبحثا وتحقيقا. والذي يقرأ مقالات وردود فعل هؤلاء المهرجين والغوغائيين يتبدى له ان الهدف الاساسي للدكتور عبد الرحمن بدوي من خلال سيرة حياته هو الحط من شأن الآخرين، والنيل من سمعة الاموات والاحياء على حد سواء، وتزييف الحقائق التاريخية، مقابل ذلك، هو لم يفعل حسب رأيهم غير تعظيم شأنه، وتمجيد مواهبه وعبقريته واعلاء مكانته العلمية والفكرية. والحقيقة ان هذه الاستنتاجات التي توصل اليها اصحابنا سخيفة وسطحية وخالية تماما من الصحة وبعيدة كل البعد عن الاهداف الحقيقية التي رسمها صاحب السيرة عندما شرع في كتابتها. بل يمكن القول ان هذه الاستنتاجات تعطي الدليل القاطع على ان اصحابها لا يحسنون القراءة، ودائما يمارسونها اضطرارا او على عجل ولا هدف لهم من خلالها إلا العثور على نتف صغيرة تستجيب لنزعاتهم ورغباتهم، فيقفون عندها ويضخمون من شأنها حتى يضللوا القراء، ويجعلونهم يعتقدون ان الاستنتاجات التي توصلوا اليها هي الحقيقة بعينها، اما ما تبقى فباطل الاباطيل.

غير انه بامكان القارئ الجاد والنزيه ان يقف على الحقيقة التي قصد اليها د. عبد الرحمن بدوي من خلال تأليفه لهذه السيرة الممتعة والمثيرة في العديد من فصولها وفقراتها، وان يلمس الاسباب التي اغاظت المهرجين والغوغائيين وافقدتهم صوابهم عند قراءتهم المتسرعة لها. وقبل الاشارة الى بعض هذه الاسباب، لا بد من القول ان د. عبد الرحمن بدوي هو احد اعلام الثقافة العربية خلال القرن العشرين وراهبا حقيقيا في عالم العلم والمعرفة. فقد حقق عشرات النصوص والتأليف القديمة المتصلة بالتصوف والفلسفة وترجم اثارا ادبية ذائعة الصيت عالميا من امثال تراجيديات سوفوكليس واسخولوس و«دون كيخوتي» لسرفانتيس و«الديوان الشرقي لمؤلفه الغربي» لجوته. بالاضافة الى ذلك عرف د. عبد الرحمن بدوي بالفلسفة الوجودية مستندا في ذلك الى مصادرها وجذورها الحقيقية وليس الى القشور والى تقليعات الموضة مثلما فعل العديد من المثقفين العرب. ويعد مؤلفه الفلسفي «الزمن الوجودي» من اندر المؤلفات الفلسفية التي عرفها العرب خلال القرن العشرين، بل لعله الوحيد في هذا المجال، اذ ان جل المؤلفات الاخرى لا تتعدى ان تكون مجرد تلاخيص لاشهر المناهج في الفلسفة الغربية. وعندما كان المثقفون العرب يرقصون على الانغام الصاخبة للايديولوجيات اليسارية والشيوعية ويترجمون نصوص وخطب القادة الايديولوجيين في ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، وايضا الادب المنتمي الى «الواقعية الاشتراكية» والذي كان في اغلبه أدبا سطحيا وسخيفا ومبتذلا، كان د. عبد الرحمن بدوي منصرفا الى التعريف بالمفكرين والفلاسفة الغربيين الحقيقيين من امثال نيتشه وشوبنهاور وهيجل وهايدجر وغيرهم. وابدا لم ينسق الى هذه الرقصة الايديولوجية المجنونة التي مارسها اغلب المثقفين العرب مشرقا ومغربا، والتي لا تزال اثارها السيئة على الحياة الثقافية والفكرية واضحة للعيان حتى هذه الساعة. ولا بد ان نكبر ايضا في د. عبد الرحمن بدوي ادراكه المبكر للنتائج الكارثية التي سيفضي اليها نظام جمال عبد الناصر، وعندما كان المثقفون العرب من المحيط الى الخليج يصفقون للرئيس المصري مثلما صفقوا تاليا للديكتاتور العراقي صدام حسين، معتقدين انه سيرفع رأس العرب عاليا، وانه سيحقق امانيهم في العزة والكرامة والحرية، وسيعيد الفلسطينيين المشردين الى اراضيهم، كان هو ملتزما الصمت، لا خوفا، وانما لانه كان على يقين ان الكارثة وشيكة، وان الخطب الرنانة هي لاعماء العقول لا الى تنويرها، وان الحماس الذي لا يستند الى قاعدة مادية ومعنوية حقيقية لا يمكن ان يؤدي بصاحبه في النهاية إلا الى السقوط والهزيمة. ولانه كان يعلم ان المواجهة خاسرة مع نظام عبد الناصر، فإن د. عبد الرحمن بدوي انصرف الى التأليف والنشاط معتقدا ان ذلك سوف يحميه من سياسة البطش والارهاب غير ان الاوضاع راحت تزداد سوءا يوما بعد يوم. فلما ادرك انه على وشك الاختناق، اختار ما سماه في سيرته بـ «الهجرة» التي لا تزال مستمرة حتى هذه الساعة. ومن الطبيعي ان يغيظ مثقف متمسك بحريته الفردية، ومتشبث شديد التشبث باستقلالية الرأي والفكر مثل د. عبد الرحمن بدوي ان يغيظ المهرجين والغوغائيين وعشاق الايديولوجيات الزائفة ذلك ان هؤلاء بسبب سطحيتهم وجبنهم لا يمكنهم ان يعيشوا إلا في حماية «القبيلة» او «الحزب» او «المؤسسة» وعندما نعلم ان اغلب الذين هاجموا د. عبد الرحمن بدوي، «يقبضون» من هذه الجهة ومن تلك، ولا يترددون في بيع ضمائرهم بأبخس الاثمان، ويغيرون الشكل والمضمون حسب المناسبة او حسب المرحلة، ندرك سبب غضبهم، وحقدهم عليه ذلك ان هذا الرجل المتوحد بنفسه حد الزهد، لم «يبع» نفسه لاحد كما هو حالهم، ولم يلهث وراء اصحاب النفوذ من اجل نيل منصب او منفعة مثلما فعلوا هم ويفعلون حتى هذه اللحظة، بل نذر نفسه للعلم والمعرفة منذ شبابه الاول، وظل وفيا لذلك حتى عندما ادركته الشيخوخة بمتاعبها وامراضها.

ان سيرة د. عبد الرحمن بدوي وثيقة نادرة عن احوال الثقافة والسياسة في العالم العربي خلال القرن العشرين، وعن فساد الحكام وسذاجة المحكومين، وعن المؤامرات والدسائس او عن المثقفين الادعياء والمزيفين او عن اسباب الجهل والتخلف اللذين لا يزال يعاني منهما الانسان العربي. وهي تذكرنا بسيرة عبد الرحمن بن خلدون: «ابن خلدون ورحلته شرقا وغربا» الممتلئة هي ايضا بحقائق مذهلة عن عصر صاحب «المقدمة» وعن انظمة الحكم، ودناءة اهل القلم.