تسليفات مصرية وإيرانية... لديون لبنانية

TT

عندما يبادر الرئيس حسني مبارك إلى مساعدة لبنان من خلال إعادة تأهيل «محطة الجمهور» الكهربائية (وهي محطة إستراتيجية على صعيد إنارة لبنان) فلأنه محب للبنان ويعرف مدى الآثار النفسية والمادية للعدوان الإسرائيلي وبالذات على المنشآت المدنية والمدارس ومحطات الكهرباء، وهو يعرف ذلك منذ أن كان ضابطاً خلال حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ثم بعدما بات قائداً للسلاح الجوي إلى أن دخل معترك العمل السياسي الرسمي نائباً لرئىس الجمهورية تقديراً لشجاعته ومكافأة له على نجاحه في الضربة الجوية الأولى التي أصابت بالهلع القوات الإسرائيلية على الضفة المحتلة من قناة السويس.

وإلى ذلك إن الرئيس مبارك عندما يتخذ قرار المساعدة بعدما سبق أن قام بزيارة خاطفة للبنان كان لها أبلغ الأثر في المعنويات اللبنانية، فإنه بذلك كان يبعث ـ إذا جاز القول ـ برسالة إستنكار للإسرائيليين خلاصتها أن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل لا تعني أن تكون مصر متفرجة على لبنان، وعلى أي بلد عربي شقيق، في حال تعرَّضه لعدوان.

وهنالك ايضا المشاعر الدفينة في نفوس المصريين نحو لبنان واللبنانيين، وكيف أن هذا البلد الصغير كان على مدى أكثر من أربعة عقود كبيراً في وقفاته إلى جانب مصر. بل إنه كان في العام 1956 زمن العدوان الثلاثي على مصر بمثابة خط المواجهة السياسية الأولى للدفاع عن مصر منذ بدء العدوان. وليس مثل زميلنا في صفحات الرأي باسم الجسر من عاش تلك المرحلة بقلمه ومشاعره، حيث كان موقعه الصف الامامي في خط المواجهة الاعلامية المناصرة لمصر ضد ذلك العدوان.

وكان لبنان في زمن الإنفصال المضيف السخي بعاطفته وحسن وفادة شعبه للأشقاء المصريين الذين رماهم الإنفصاليون على الحدود من دون أن يفطن هؤلاء إلى أن التاريخ لن يرحم فِعلَتَهم تلك.

وأكثر من ذلك إن لبنان كان إحدى أوراق العمق الشعبي التي دعمت شأن الرئيس جمال عبد الناصر وبحيث إنه كان يخوض معاركه السياسية معتمداً على الورقة اللبنانية بالذات، وذلك للخصوصية التي يتميز بها هذا البلد وهو أنه موضع اهتمام دول العالم من أميركا إلى أوروبا مروراً بالاتحاد السوفياتي، ولأن لبنان هو الساحة الإعلامية لمن يريد أن يخوض معارك على نحو ما فعل عبد الناصر.

وحتى بعدما أبرم الرئيس أنور السادات معاهدة سلام مع إسرائيل استمرت مصر تأخذ في القلب اللبناني موقع الصدارة وإن كان الغضب على رئيسها بلغ مداه وكانت خيبة الأمل بما فعله كبيرة جداً. هذا فضلاً عن أن لبنان استقبل ويواصل استقبال ألوف المصريين للعمل ومن دون أن يتبرم أو يضيق بوجودهم.

ومن هنا فإن مصر عندما تساعد لبنان على إعادة تأهيل «محطة كهرباء الجمهور» فإنها بذلك كمن تقول للبنانيين: إنكم لم تقصروا ونحن لا ننسى. أو إن مصر ترد على التحية بمثلها وبأحسن منها في الوقت المناسب.

وما يقال عن مصر، يقال أيضاً عن إيران. فلبنان من خلال جنوبه وبقاعه وضاحيته هو العمق الشعبي الرئيسي للثورة الإيرانية. وللمرء أن يتصور حال هذه الثورة لولا وجود هذا العمق الذي هو بمثابة الرئة للثورة الإيرانية من جهة، وإحدى أبرز أوراق المواجهة التي تخوضها هذه الثورة ضد خصومها وأيضاً ضد حسّادها. ومن دون هذا العمق كانت ستبدو من دون حضور فاعل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كما أنها بهذا العمق وضعت نفسها على خارطة هذا الصراع وباتت تحمل أحد الأرقام الأكثر صعوبة فيه.

وإلى ذلك إن الدور الذي قام به «حزب الله» والمقاومة الشجاعة ضد الاحتلال الإسرائيلي التي ارتبطت باسم الحزب ومقاتليه والذي ما كان ليحدث لولا دعم إيران، كان أكثر عمليات التوظيف الثوري لإيران خارج حدودها. بل قد يجوز القول إن لبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي حقق الطموح الإيراني في تصدير الثورة وأن أي تكلفة مقابل ذلك لا تبدو باهظة إزاء الشأن الذي بات لإيران.

ومع أن طبيعة الدور الإيراني متمثلاً في المقاومة الجدية والفاعلة التي قام بها مقاتلو «حزب الله» كانت من النوع الذي لا يلقى الاعتراض أو التحفظ، إلا أن تسليم لبنان الرسمي وبالذات من خلال الرئاستين الأولى والثالثة فيه أعطى الثورة الإيرانية أهمية إضافية بحيث أن الحضور الإيراني في العمل الوطني اللبناني بشقيه الرسمي والشعبي لم يعد مجرد أمر واقع وإنما حالة قبول وعن اقتناع عدا تحفظات خجولة في بعض الأحيان من جانب بعض المقامات الروحية والسياسية.

ومن هنا فإنه عندما يقوم رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري بزيارة إيران يوم السبت 13 يناير (كانون الثاني) الجاري وتتم الزيارة عشية اذاعة مشروع الموازنة السنوية المثقلة بعجز 51 في المائة وفي أكثر الأزمان صعوبة في الوضع اللبناني بشقيه السياسي والمعيشي الاجتماعي ويلقى الرئيس الحريري من أهل الحكم الثوري في إيران بجناحيهم (المحافظ متمثلاً في شخص المرشد علي خامنئي والليبرالي متمثلاً في شخص الرئيس خاتمي الذي يختزن احلى الذكريات عن لبنان) الاهتمام اللافت للإنتباه. وتنتهي الزيارة بقرار إيراني بالمساعدة على إعادة إعمار لبنان وخصوصاً الجنوب.. إنه عندما يحدث ذلك فهذا معناه أن الثورة الإيرانية كانت في انتظار المناسبة التي تساعد فيها لبنان وكانت أيضاً في انتظار أن يطلب لبنان الرسمي وبالذات الرئاسة الثالثة فيه المساعدة. ويبدو أن هذا ما استوعبه الرئيس الحريري قبل أن يقرر القيام بزيارة رسمية إلى إيران ربما ستكون من أقصر الزيارات ذات الجدوى للخزينة اللبنانية بعد تلك الزيارة التي قام بها إلى المملكة العربية السعودية (في عهد الرئيس الياس الهراوي) وجنى لبنان منها وديعة بنصف مليار دولار كانت هدية للبنان لا نعتقد أنه سيتم التعامل معها ضمن مبدأ الاسترداد. كما أن المناسبة للقيام بالزيارة بهدف طلب المساعدة كانت جاهزة أكثر من أي وقت مضى. فالاحتلال الإسرائيلي للجنوب أُزيل وبفعل ضربات المقاومة الفاعلة تساندها الدولة من خلال اعتبار هذه المقاومة أنها شبه رسمية. وبعد الاحتلال بات لا بد من تضميد الجراح وإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي تماماً على نحو إعادة الإعمار التي شهدتها المدن المصرية على ضفة قناة السويس وبالذات بور سعيد والإسماعيلية. كذلك لا بد من إعادة الألوف من أبناء قرى الجنوب إلى بيوتهم، وهذا يتطلب أموالاً لا قدرة للدولة على تأمينها.

ومع أنه كان لافتاً توضيح الرئيس الحريري بأن المساعدة الإيرانية لن تكون للجنوب فقط، فإنها عملياً للجنوب والجنوبيين، ذلك أن الذي أصاب الجنوب من تهجير وتدمير جرّاء الإعتداءات الإسرائيلية اليومية هو في بعض جوانبه مسؤولية إيرانية. ولا نظن أن الثورة الإيرانية في حاجة إلى مثل هذا الإقناع بأمر هو من البدهيات، فضلاً عن أنها إذا كانت لن تساعد على مرحلة التعمير وإعادة البناء فإنها ستخسر، كما الثورة الفلسطينية من قبل، زخماً شعبياً جنوبياً لها هي في أشد الحاجة إليه حتى بعدما لم يعد تصدير الثورة هو الهاجس أو القضية.

ومن الجائز القول ان مسألة تطبيع المشاعر، وهو بأهمية تطبيع العلاقات مع الثورة الإيرانية، ليست مسألة مستحيلة. وفي ضوء تجربة التطبيع التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز وبموجبها انتقلت العلاقة السعودية ـ الإيرانية من أقصى التوتر إلى أفضل حالات الإنسجام، يمكن القول ان أسلوب التخاطب هو الذي يشكل العنصر الأكثر أهمية في هذا التطبيع. ومن هنا فإن الرئيس الحريري استأنس بأسلوب الأمير عبد الله وأفاده هذا الاستئناس بدليل أنه لم يعامَل خلال زيارته فقط على أنه رئيس السلطة التنفيذية في لبنان وإنما عومل على أساس أنه أحد الأرقام الصعبة في التركيبة اللبنانية وعلى أنه الرمز السياسي لطائفته وأيضاً على أساس حضوره العربي وبالذات الخليجي. وهذا التعامل معه من شأنه أن يتطور وبحيث أنه عندما سيعيد الرئيس الحريري تشكيل الحكومة فإن «حزب الله» لا بد أن يكون مشاركاً في الحكومة الثانية في عهد الرئيس إميل لحود، خصوصاً أن عدم مشاركة الحزب في الحكومة الحالية مكتفياً بدور الراصد والمراقب والمتحفز كان لافتاً وكان مؤشرا إلى أن الحزب الذي هو الأقوى في الطائفة الشيعية يفضل التغريد خارج السرب الحاكم، إنما من دون أن يكون تغريده من النوع الذي يُربك أو يُقلق.. على الأقل في المرحلة الراهنة.

ويبقى أن المساعدة الإيرانية التي يتمنى الرئيس الحريري ألاَّ يكون مصيرها مثل مصير المساعدة العريية للانتفاضة التي تقررت في القمة الإستثنائية في القاهرة والتي لم تصل بعد إلى أصحابها، من شأنها أن تجعل أطرافاً عربية ودولية تتحمس إلى مساعدة لبنان وخصوصاً إذا جاءت المساعدة الإيرانية على قدر الحرص على بقاء لبنان نقطة إرتكاز إستراتيجية للحكم الثوري في إيران أو جاءت على قدر محبة بعد أهل هذا الحكم للبنان، أو جاءت بحجم المساعدة التي لم يتأخر في تقديمها ومن دون تباطؤ أو اختزال للمقاومة في لبنان. ومن هنا يصبح الافتراض جائزاً بأن زيارة الحريري لإيران تندرج تحت بند التكتيك وليس ذات منطلقات إستراتيجية. ونقول ذلك مع الأخذ في الإعتبار أن المساعدة الإيرانية للجنوب والجنوبيين هي تسديد ديون على الثورة الإيرانية شأنها شأن الديون التي للبنان واللبنانيين على مصر طوال سنوات بدءاً من العدوان الثلاثي عام 1956 وحتى تداعيات هزيمة يونيو 1967. وفي العرف السائد إن الدنيا دَيْن وسَلَف كما يقول المثل الشائع وان المدين يسدد ما عليه من ديون... ولو بعد حين.