بن جديد.. عندما يكون الصمت ثقافة سياسية

TT

تباينت الآراء والتحاليل في تفسير العودة المفاجئة لدائرة الضوء السياسية او بالاحرى الاستعراض الاعلامي للرئيس الجزائري الاسبق الشاذلي بن جديد، بعدما انتهج سياسة الصمت المطبق طيلة السنوات التسع الماضية، رغم الانتقادات اللاذعة واحيانا الجارحة لسياساته ولشخصه وحتى لعائلته من طرف العديد من الساسة والمسؤولين، وليصبح بين عشية وضحاها رقما جديدا ومهما في المعادلة السياسية الجزائرية الحالية، وربما المستقبلية، لا سيما بعد تأكيده على استعداده للمساهمة من اجل ايجاد مخرج لأزمة البلاد.

قبل الخوض في تباين القراءات حول عودته المفاجئة لا بد من الاعتراف اننا كنا نتوقع بقاء بن جديد معتكفا عن الكلام ما دامت الازمة التي ابعدته عن الحكم قائمة، وقد اخطأنا في ذلك. لكن في المقابل أصابت افتتاحية «الشرق الأوسط» ليوم الاربعاء ما قبل الماضي (نشرت قبل ثلاثة ايام من ظهوره الاعلامي) عندما لخصت تقريبا ما اراد قوله للصحافة.

والسؤال المطروح بالحاح الآن هو: لماذا اراد بن جديد كسر جدار الصمت والخروج الى الاضواء في هذا الوقت بالذات؟ هل يهدف من وراء ذلك الدفاع عن ماضيه السياسي واعادة الاعتبار له، ولِمَ لَمْ يفعل ذلك في منتصف التسعينات عندما تعرضت سياسته الى نقد جارح ووصفت بـ«العشرية السوداء»؟ أم ان الامر لا يعدو كونه ثأرا سياسيا ضد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وسياسته المتمثلة في الوئام المدني بعدما اصبح البعض يتحدث عن فشلها؟ أم هو عبارة عن اشارات سياسية موجهة للرئيس بوتفليقة من بعض اطراف «أهل الحل والربط» داخل النظام بواسطة بن جديد؟ ام ان الامر لا هذا او ذاك، بل كانت «الخرجة الاعلامية» عفوية وتلقائية؟

لا مجال للصدفة مع بن جديد مهما كان الشأن ومهما كان كلامه غامضا احيانا ومقتضبا احيانا اخرى ولم يجب عن معظم التساؤلات التي اثيرت بعد استقالته في بداية عام 1991، فان «دردشته» هذه مع مراسل «الشرق الأوسط» في الجزائر الصحافي خضير بوقايلة لم تأت من فراغ ولم تكن عفوية للدفاع عن شرفه وشرف عائلته، لأنه ببساطة لا مجال للصدفة او التلقائية مع سياسي محنك ومتمرس من صنف الشاذلي بن جديد، وستبقى من اهم الدردشات التي عرفتها الساحة السياسية والاعلامية الجزائرية في الفترة الاخيرة لكونها تحمل في ثناياها اعترافات واشارات ليس فقط للرأي العام المحلي، بل ايضا للنخبة السياسية وبعض دوائر السلطة من جهة، ومن جهة اخرى تجيب على بعض التساؤلات التي شغلت بال الجزائريين طيلة العقد الماضي.

ولعل من اهم اعترافاته أن صمته كان مطلوبا وضروريا في الفترة السابقة لحساسية وضع البلاد الحرج «وحتى لا أصب الزيت على النار»، وانه اتخذ موقفه هذا ليس خوفا من احد، بل احساسا منه بالمسؤولية، و«انني التزمت الصمت كشكل من اشكال تحمل المسؤولية، وانا لا اخاف أيا كان.. وكنت مقتنعا تمام القناعة بأن التاريخ سينصفني يوما مهما تحامل عليّ الاعداء والمنافقون، و«اننا خدعنا بنتائج سبر الاراء حول انتخابات 1991..» و«لم اتعاطف ابدا مع جبهة الانقاذ التي كانت تحوي منافقين سياسيين يوظفون الدين اداة للوصول الى السلطة».

وهناك اشارة اخرى لا تقل اهمية عن الاولى، وهي استعداد الرئيس السابق للمساهمة في حل الازمة الراهنة. وليس معروفا ما اذا كان بن جديد قد شعر بارتكابه خطأ فظيعا في حق بلاده عندما استقال فجأة وبدون اعطاء فسحة مناسبة من الوقت لانتقال السلطة بهدوء وبدون ارتباك، كما فعل الرئيس السابق الامين زروال عندما منح مهلة سبعة اشهر لايجاد خليفة له عبر الانتخابات، ام ان الامر اكبر من ذلك وان هناك جهات داخل السلطة ارادت، من وراء لعب ورقة بن جديد ـ طبعا بموافقته ـ تحجيم سلطة الرئيس بوتفليقة، لا سيما بعد الحاحه في اكثر من مناسبة على نقل مراكز الحكم الى مؤسسة الرئاسة بدل المؤسسات الاخرى كالبرلمان والجيش، وانه لا يريد ان يكون ثلاثة ارباع رئيس من جهة، وادراك بعض مفاصل السلطة بفشل سياسة الوئام المدني التي تبناها الرئيس بوتفليقة منذ توليه السلطة، من جهة اخرى.

تغليط ام خداع؟

وبغض النظر عن هذه الآراء والتحليلات التي تحاول تفسير «الخرجة الاعلامية المفاجئة» لابن جديد، فان الغموض ما زال يكتنف الاسباب الحقيقية وراء تصريحاته الاخيرة رغم انه اجاب على بعض التساؤلات التي شغلت الرأي العام والطبقة السياسية منذ عزوفه عن السلطة، كقوله انه استقال بمحض ارادته ولم تقله المؤسسة العسكرية كما اشيع في البداية، ونفى الشائعات التي تحدثت عن تحالفه مع «جبهة الانقاذ» وقال عنها انها ضرب من الخيال، وانه ما زال وفيا لقناعته السياسية التي لم يسعفه الحظ لترسيخها وتجسيدها ميدانيا بسبب «تغليطه» من طرف تقارير ودراسات اعدها له مسؤولون آنذاك وتخلص الى ان البرلمان المقبل سيكون متوازنا بين أبرز القوى السياسية (جبهة الانقاذ وجبهة التحرير وجبهة القوى الاشتراكية). كما جاء في هذه الدراسات ان «الانقاذ» لن تحصل على أكثر من ثلاثين في المائة من المقاعد.

لكن السؤال المطروح هل تم تغليطه لان سبر الآراء كان غير دقيق ويفتقد الخبرة والمهنية، ام تم خداعه لانه كان مغشوشا وملفقا عن قصد؟ المعروف ان السفارة الاميركية في الجزائر قامت كذلك بسبر آراء قبيل تلك الانتخابات وتوصلت الى نتيجة مفادها ان «جبهة الانقاذ» قد تتحصل على حوالي خمسة وستين في المائة من مقاعد البرلمان، وهي بالتأكيد اقرب الى الواقع من تلك التي اجرتها المؤسسات الجزائرية. ولماذا عالج بن جديد هذا «التغليط» أو «الخداع» بخطأ آخر اي الاستقالة المفاجئة مع العلم انه كان يدرك، حسب قوله، مخطط جبهة الانقاذ وعزمها على الاستحواذ على السلطة بانتهاج كل السبل بما فيها استعمال العنف وفوق هذا كان يعرف ان هناك جهات داخلية وخارجية تتربص بمصير البلاد؟ ولماذا اقدم على حل البرلمان يوم 7 يناير (كانون الثاني) 1992 ولم يعلن عنه في حينه فاتحا بذلك ازمة دستورية ـ سياسية ما زالت تداعياتها تضرب الجزائر في العمق؟ وحتى رئيس البرلمان آنذاك عبد العزيز بلخادم (وزير الخارجية الحالي) لم يبلغ بقرار الحل وسمعه كما سمعه بقية الشعب عبر التلفزيون يوم اعلان الاستقالة، وكيف كان مزاج المؤسسة العسكرية تجاه العملية الديمقراطية بصفة عامة وتلك الانتخابات بصفة خاصة.. وهل كانت لديها تحفظات على اجرائها ام لا؟

هذه التساؤلات بالتأكيد ستفتح الاقواس لتساؤلات اخرى عن الاجواء السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الجزائر المعاصر وهي في حاجة ماسة الى القاء الضوء عليها من قبل ابطالها الاساسيين والثانويين حتى لا تتكرر المأساة وتوضع البلاد مرة اخرى على حافة المجهول.

التفكير في خيارات اخرى صحيح ان بن جديد خرج عن صمته وبعث برسائل مشفرة الى من يهمه الامر، وصحيح انه ليس مطلوبا منه ان يتحدث عن تفاصيل تلك الحقبة وان يجيب عن كل التساؤلات، ولكن الصحيح ايضا ان المبررات والاسباب الحقيقية وراء شهادته ما زال الغموض يلفها وانه تحدث قليلا وفي وقت يشهد انزلاقات امنية فاتحا بذلك الباب للعديد من التساؤلات المرتبطة بسياسة الوئام المدني التي مازال الرئىس بوتفليقة يراهن على نجاحها ويعتبرها المرجعية الاساسية لحكمه، بينما يقول البعض على انها فشلت ووصلت الى طريق مسدود ولا بد من التفكير في بدائل او خيارات اخرى تعيد للبلاد توازنها واستقرارها الذي فقدته بعد احداث اكتوبر 1988، لا سيما انه مستعد للمساهمة في ايجاد حل للازمة حسب شهادته.

ومن خلال هذه المعطيات والتساؤلات لا يستبعد المراقبون فرضية اشراك بن جديد في مبادرة تضع تصورا سياسيا يرضي معظم الاطراف ما دامت شهادته الاخيرة لا تتعارض بل تنسجم الى حد ما مع رؤية المؤسسة العسكرية وفعاليات اخرى حول كيفية التعامل مع التيارات الراديكالية وضرورة وقف جبهة الانقاذ المنحلة ومنعها من الذهاب الى ابعد مما وصلت اليه سنة 1991ما دامت تستعمل الدين الحنيف كوسيلة وليس هدفا للوصول للسلطة.

وهل هذا يعني العودة بالازمة الجزائرية الى نقطة الصفر اي الى يوم 11 يناير 1992 يوم استقالة الرئيس بن جديد؟

وهل هذا يعني كذلك ان الجزائر وهي على اعتاب القرن الواحد والعشرين كتب عليها ان تحل ازماتها السياسية باللجوء الى ادوات ارشيفية وبأساليب شبيهة بأساليب التنجيم وقراءة الفنجان؟

والمفارقة الغريبة تكمن في ان مأساة الجزائر التي كادت تعصف بكيانها لم تستطع افراز جيل على غرار جيل حرب التحرير قادر على افتكاك المبادرة ووضع حد لمعاناته.

الاسابيع القادمة وربما احاديث الرئيس بن جديد المقبلة قد تجيب على هذه التساؤلات وتساؤلات اخرى.