منازلة صدام الكبرى ضد الزمن

TT

آلاف الجنود يمرّون مُسلّحين بمختلف أنواع الأسلحة (التي لا تحمل طلقة واحدة). والزعيم البطل يقف منتصباً شامخاً لمدة خمس ساعات كاملة يحيّي جنوده البواسل. وأعوان الزعيم البطل يحتفلون بانتصاراته الغابرة والقادمة. ويطلق الزعيم البطل مائة وخمسين رصاصة في الهواء. والمجلس الوطني يطالب بإعادة الأجزاء المقتطعة من الوطن الكبير. هكذا كان المشهد أيام هتلر، وهكذا كان المشهد أيام موسيليني، وهذا هو المشهد في عهد صدام حسين.

هناك شيء بسيط نسيه صدام حسين والمعجبون به وهو أن الزمن لم يعد هو الزمن. عدو صدام الأول ليس الرئيس الأميركي (القديم أو الجديد)، الذي لا يعطيه سوى %5 من اهتماماته. ولا رئيس الوزراء البريطاني، الذي يعطيه أقل من هذه النسبة، ولا الكويت، التي ما زال أطفالها يعانون كوابيس الغزو، ولا الخليج، الذي يتمنّى السلامة لنفسه... عدوّ صدام حسين الأول هو الزمن، والمشكلة مع هذا العدو أنه لم ينهزم، حتى الآن على الأقل، أمام أحد.

قامت الدنيا وقعدت، عدّة مرات، خلال العقد الأخير. اكتشفت الدنيا شفرة الجينات الموروثة، واستنسخت الحيوانات، وحوّلت الهاتف الجوال إلى ضرورة حياتية، وجعلت معلومات الإنترنت في متناول الجميع، وفرضت حقوق الإنسان رضي من رضى وغضب من غضب. وأصبحت الديمقراطية هي النغمة السائدة في كل مكان. وبدأت الشعوب تتنفس وتتحرك وتسقط الأصنام. كل هذه المتغيرات تدور في الدنيا، والزعيم البطل يطلق الرصاصات في الهواء، ومجلسه الوطني يرسم الخرائط، والبلاد تعيش موسماً من الاحتفالات بالانتصار. ولا ينسى الزعيم البطل، رغم مسؤولياته التاريخية، أن يأمر بقطع الأنوف والآذان، وسجن كل من لا يحمل شجرة عائلة، وأن يفتح المجال للقتل أمام كل من يستهويه القتل دفاعا عن العرض. ويسفر الزعيم البطل عن إنسانيته الفذّة عندما يأمر بعشرات الملايين لإعانة جياع أميركا. ويفاجئ الأوساط الأدبية برواية من تأليفه تتحدث عن عشقه العظيم لشعبه الوفيّ، وليخسأ الخاسئون!.

وماذا عن المواطنين في عهد الزعيم البطل المنتصر؟، المواطنون يعانون الجوع، رغم أن المبلغ المخصص للغذاء أضخم من ميزانية عدد من الدول. والأطفال يموتون من السرطان، رغم أن المبلغ المخصص للدواء يفوق ما تنفقه كثير من الدول على الدواء. ولا يسمح لمواطن أن يقتني جهاز فاكس إلا بإذن من السيد وزير الداخلية. ولا يسمح لمواطن باقتناء جهاز كومبيوتر إلا إذا كان من أعضاء اللجنة المركزية في الحزب. الجامعات خالية من الكتب والبيوت خالية من الأثاث. والملايين يفرّون في أضخم هجرة اختيارية عرفها التاريخ العربي الحديث. والزعيم البطل يقف شامخاً منتصباً خمس ساعات كاملة يطلق الرصاص في الهواء.

وفي الخليج، في هذه الأثناء، كان المجتمع يستجيب لضرورات الزمن الجديد. مستخدمو الإنترنت في الخليج يعادل عددهم نصف مستخدميه في الأمة العربية. التجارة الإلكترونية أصبحت جزءاً من التعامل اليومي لكل مؤسسة خليجية تجارية. لا يوجد متعلم (دون الأربعين) لا يتعامل مع الكومبيوتر. البحرين تعلن عن حياة ديمقراطية عمادها مجلس تشريعي منتخب. والكويت تسعى جاهدة لاستكمال تجربتها الديمقراطية بإدخال النساء فيها. وفي عُمان مجلس شورى يضم رجالا ونساء، ويتحول، بثبات، من التعيين إلى الانتخاب. وفي قطر انتخابات بلدية تسبق الانتخابات التشريعية. وفي الإمارات، يتحدث المجلس الاستشاري عن مواضيع كانت من الممنوعات. وفي السعودية، هامش من حرية التعبير لم يسبق له مثيل، ويبشّر بالمزيد. كل هذا والزعيم القائد البطل يحمل بندقيته ويطلق الرصاص في الهواء، ويبني المزيد من القصور، وينفق ملايين الدولارات احتفاء بعيد ميلاده الميمون.

العالم العربي، من أقصاه إلى أقصاه، يفتح عينيه على الحقائق الجديدة. في سوريا رئيس شاب يحاول، بحذر، تفكيك تركة من الانغلاق. وفي الأردن، ملك شاب يتنكّر في زي الحمّالين وسائقي التاكسي ليرى بعينيه، لا من خلال الأجهزة، حالة المواطنين. وفي مصر، معارضة تنتقد الحكومة ولا تغيب في السجن. والسودان، يتحول من الثورة العالمية إلى الاهتمام برخاء المواطن. وليبيا، بعد عقود من العزلة، تطبع علاقاتها مع العالم. والجزائر، توشك أن تخرج من نفقها الدموي. وفي المغرب ملك شاب اهتم بالمسحوقين والضعفاء على نحو جعله يصبح «ملك الفقراء». وفي تونس، توشك قضية حقوق الإنسان أن تصبح القضية الأولى. لا يدعي أحد أن العالم العربي أصبح واحة من واحات الديمقراطية، ولكن أحداً لا ينكر أنه يتغير، والتغيير هو الفارق الأساسي بين الأحياء والرفات.

سيزول الحصار عن العراق، آجلا أو عاجلا، بفعل عوامل التعرية أو بفعل الضغوط السياسية. وسيجد الرئيس البطل نفسه قادراً على التحرك من جديد. هل سيفتح بلاده للقرن الحادي والعشرين؟ هل سيجري انتخابات حقيقية؟ هل سيتصالح مع ثلاثة أرباع شعبه؟ هل سيكف عن إعدام كل اثنين من أعضاء مجلس قيادة الثورة يجتمعان خارج المجلس؟ هل ستنتهي البرامج النووية والبيولوجية؟ هل سيقيم علاقات مودة مع «المجوس» و«الأعراب»؟ هل سيكون لكل مواطن عراقي بيت يأويه، وعمل يغنيه، ومستشفى يداويه، ولسان يتحدث به؟

لن يحدث شيء من هذا. سوف يندفع الزعيم البطل في مغامرة انتقامية جديدة تنتهي بهزيمة جديدة تسمى «أم الانتصارات»، ويحتفل بذكراها، سنة بعد سنة، بموكب عسكري رهيب يقف فيه الزعيم البطل شامخاً منتصباً يطلق الرصاص في الهواء.

يقولون: تعاملوا مع صدام حسين لأنه باق لن يتحرك. ولكن هل هناك أحد يمكن التعامل معه؟ لا يوجد سوى شبح دخل معركة مع الزمن، مصيرها المحتوم هو مصير كل معركة خاضها أي إنسان ضد الزمن.. فانقرض.