لا مرجعية دينية أو قانونية تجيز للقضاء الحكم بحرمان المرأة من حقوقها السياسية

TT

صدر عن المحكمة الدستورية بالكويت رأي قضائي يَحْرِم المرأة الكويتية من ممارسة حق الانتخاب الذي هو أحد الحقوق السياسية. وأقل ما يقال عن هذا الحكم إنه غريب عن مقتضيات التعاليم الاسلامية التي جعلت من النساء شقائق الرجال في الأحكام، وعن القوانين الدولية التي أعطت للرجل والمرأة حقوقا سياسية متساوية.

جاء الاسلام بتعاليم واضحة لا تقبل التأويل بتسوية الرجل والمرأة في حق التكريم الإلهي للبشر ذكوراً وإناثاً، وتمتيع النوعين بحقوق ضمن الله بنفسه لهما حق ممارستها، إذ جعل سبحانه من حقوق عباده حقوقاً له لا يجوز للبشر أن يمسوا بها أو يُحرَم واحد من النوعين (الذكر والأنثى) من حق ممارستها.

وكانت المجتمعات العالمية قبل ظهور الاسلام تعطي للرجل وحده حقوقاً تَحرِم المرأة منها فجاء الاسلام بتصحيح هذا المفهوم الخاطئ وأنصف المرأة وأعطاها نفس الحقوق التي كانت حَكْراً على الرجل، وسوَّى بينهما في النشأة والخلْق في السورة المخصصة في القرآن للنساء وقال: «يا أيها الناس (النداء هنا للبشر كافة) اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها» أي الذكر والأنثى، والتعبير عنهما معا بالزوج الواحد يفيد المساواة إذ كل منهما زوج للآخر، وبذلك قرر علاقة المساواة والتكامل بينهما، وجمع الله بينهما في مهمة استخلافه البشر على ادارة الأرض عندما قال في القرآن: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» هو جنس الذكر والأنثى. وسوى بينهما في تكريم جنس الانسان في آية: «ولقد كرمنا بني آدم» أي ذكوراً وإناثاً. وسوَّى بينهما في الخلْق الواحد من طين واحدة فأبطل القول بخلق حواء من ضلع آدم، ونفِى عن المرأة مسؤولية ما يُدعى في معتقدات أخرى بالخطيئة الأصلية. فحواء وآدم معا عصيا ولم يُغوِْ أحدهما الآخر إذ كانا معا منهَّيْين عن القرب من الشجرة. وكلاهما أزلَّه الشيطان: «فأزلَّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه»، وكلاهما تاب الى الله وأناب واستغفر: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين». والذكر والأنثى متساويان في المسؤولية: «كل نفس بما كسبت رهينة». وهما متساويان أمام الله وأحكام الشرع إلا في ما يتصل منها بتصريف شؤون خاصة بكل جنس. والقاعدة العامة هي التي نص عليها الحديث الشريف مؤسسُ مبدأ المساواة بينهما القائل: «النساء شقائق الرجال» وفي رواية أخرى: «في الأحكام».

وقد ركز التشريع الاسلامي على هذه المساواة في غير ما آية أو حديث فلا يُذكَر الذكر إلا مقترنا بالأنثى: «من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن» الآية. وقد ورد في القرآن تقديم الاناث على الذكور في قوله تعالى: «يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء ذكوراً».

وكان يمكن أن يشير القرآن الى النساء ضمن جمع الذكور الذي يعني الاناث ولكن القرآن فضل الوضوح فنص على كل جنس منهما تأكيداً للمساواة: فالمؤمنون يُتْبَعون بالمؤمنات، والصائمون بالصائمات، والذاكرون الله كثيرا بالذاكرات، والمحصَنون يُتْبَعون بالمحصنات، إلى غير ذلك مما يذكر في القرآن عند ذكر الاحكام المشتركة بين الجنسين. وآثر الحديث الشريف بالتكريم والتفضيل الأم على الأب: فالجنة تحت أقدام الأمهات.

وقد بشر النبي (صلى الله عليه وسلم) بدخول الجنة من قام بواجب رعاية البنات فقال: «من عال ثلاث بنات فأدَّبهن وزوَّجهن وأحسن إليهن فله الجنة». وسوى الاسلام بين الذكر والأنثى في حق التعلم لكل مسلم ومسلمة. وسوَّى بينهما في حق العمل واكتساب أجر يقابل العمل: «للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن». وفتح الاسلام للمرأة باب المسجد الذي كان مدرسة وبرلمانا ومجلس حكم وقضاء فغَشِيته المرأة بجانب الرجل. وطالبت المرأة بالمساواة مع الرجل فسألت أن تكون لها حصة خاصة بها «فجعل النبي للنساء يوما لقيهن فيه فوعظهن» وما أكثر النساء اللواتي كان لهن فضل قيادة النهضة الاسلامية في عهود الاسلام الزاهرة! وقد سوَّى الإسلام بين الرجال والنساء في ولاية الشأن العام فقال الله في القرآن: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» وتدخل في ذلك وظيفة الولاية على الأمن الشامل للمجتمع إذ أضافت هذه الآية: «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر». وقد ذهب بعض الفقهاء الى القول إن للمرأة الحق في ممارسة الولاية العظمى أي رئاسة الدولة، وخالفوا من أوَّل تأويلا قاصرا على الرجل حديث: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» معتبرين انه خاص بابنة كسرى كما يدل عليه سياق الحديث. وولى عمر ابن الخطاب أم الشفاء بنت عبد الله على إدارة السوق وهو مرفق اقتصادي مهم لما يتطلبه من مراقبة للأسعار وقمع الغش. كما روي ان سمراء بنت نهيك الأسدية كانت تطوف في السوق وبيدها سوط يرمز إلى وظيفتها الأمنية المندمجة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقادت عائشة زوجة الرسول حركة المعارضة لعلي ابن أبي طالب وخطبت في الجيش لتحريضه على القتال في وقعة الجمل. وكانت عائشة قد تولت الافتاء في زمن عمر وعثمان وتوفيت وهي على ذلك.

وأعطى النبي عليه السلام حق المشاركة في البيعة للنساء. والبيعة كانت تشكل نوعاً من الانتخاب وعقدا سياسيا ودينيا بين الراعي والرعية. واعترضت امرأة على قرار الخليفة عمر بن الخطاب وضع حد للمغالاة في صداق النساء وذكَّرت عمر بآية: «وآتيتم إحداهن قنطارا» فرجع عمر عن قراره وقال: «امرأة أصابت وأخطأ عمرَ».

والحديث عما خوَّله الله للنساء في مجال الحقوق السياسية التي أراد قضاء الكويت حرمانهن منها يضيق عنه هذا المقال محدود الحجم.

أما القوانين والدساتير في عالم اليوم فتكاد تُجمِع على وحدة التشريع بالنسبة للجنسين في ما يخص ممارسة الحقوق السياسية، بما في ذلك دساتير وقوانين دول اسلامية عبر العالم في أوروبا وافريقيا وآسيا. وينص عدد من هذه الدساتير على هذا الحق بصيغة: «الرجل والمرأة متساويان في التمتع بالحقوق السياسية»، أو صيغة: «إن لكل مواطن ذكرا كان أو أنثى الحق في الانتخاب» أو صيغة: «عضوية مجلس النواب حق يمارسه الذكور والاناث على السواء».

كما ان حقوق المرأة السياسية معترف بها من الاتفاقات الدولية والمواثيق الأممية. ومن منطلق سمو قوة القانون الدولي على القانون الوطني (أو الداخلي) للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فإنه ينبغي لهذه الدول أن تُدَوِّل قوانينها الداخلية لتصبح متلائمة مع قوانين الأمم المتحدة ومواثيقها، وفي طليعتها الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تُسوَّي مقتضياته بين الرجل والمرأة، وهو ما فعله الإسلام منذ أزيد من أربعة عشر قرناً.

وقد جاءت المادتان الثانية والثالثة من الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية تنصان على «عدم التمييز بين الجنسين في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية»، كما جاءت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تنص في ديباجتها على «مساواة الرجل والمرأة» وعلى أن: «التنمية التامة، ورفاهية العالم، وقضية السلم تتطلب جميعها مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل».

وجاء في مادتها الخامسة الحث على «تغيير الانماط الاجتماعية والثقافية بهدف تحقيق القضاء على العادات والأعراف القائمة على الاعتقاد بكون أيِّ من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر».

ولعل ما تشير إليه هذه الفقرة هو ما شكَّل في عقلية قضاة المحكمة الدستورية في الكويت خلفية الرأي القانوني القاضي بوضع المرأة في درجةٍ دُنيا أسفل من درجة الرجل طبقاً للأعراف البائدة التي لم تعد صالحة للعصر. وعسى أن تراجع المحكمة نظرتها إلى المرأة وتعيد النظر في حكمها.

إن الكويت الذي حقق نهضة اجتماعية تساهم فيها المرأة الكويتية بنصيب وافر وتفرض التنويه والاشادة بها لا يستحق أن يكون قضاؤه متخلفا عن هذه النهضة، وأن يطغى فيه تشبث القضاء بالأعراف القبلية على انتمائه لتعاليم الاسلام وعلى انخراطه في منطق العصر.