تراشق فلسطيني ـ إسرائيلي على أنغام المفاوضات

TT

يحمل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين في طابا المصرية في طياته خطر تصعيد العدوان الاسرائيلي. سيعتبر الجنرال باراك القبول الفلسطيني بالعودة للتفاوض في هذه الظروف كرضوخ منهم لاستعمال القوة وسيعود الى اسلوب القمع مجدداً كلما «تشدد» الفلسطينيون في مطالبهم التفاوضية... هذا طبعاً اذا نجح في الانتخابات التي لن يتذكر بعدها ان الفلسطينيين وعودتهم للمفاوضات هي التي ادت الى نجاحه اصلاً. وفي حالة نجاح الجنرال شارون في الانتخابات فإنه سيرفض أي اتفاقيات او اعلان مبادئ تم الاتفاق عليه، ورأى الجنرال دوماً ان الحرب وتصعيد الاستيطان هي من الاساليب الانجع للحد من تطلعات العرب والشعب الفلسطيني وجلبهم خانعين للمفاوضات، وهو يروج علناً الآن لقدرته على توفير الامن وجلب السلام بالقوة. المهم هنا تذكّر ان مفاوضات طابا لن تجلب السلام واقصى «انجازاتها» قد تكون مساعدة الجنرال باراك على الفوز بالانتخابات، واثبات قدرة تفاعل العامل السياسي الفلسطيني السلمي في السياسة الاسرائيلية الداخلية. من الواضح ان القيادة الفلسطينية تفضل شر باراك على شرور شارون، وتعرف انها تساعده عبر المفاوضات في الحملة الانتخابية لكسب الصوت العربي واليساري اليهودي في اسرائيل، ولذلك ـ على الاقل ـ لن تقدم القيادة الفلسطينية تنازلات سياسية في هذه المفاوضات بل ستنتظر بديلاً للجميل الذي صنعته مع باراك... الجنرال ـ الصغير ـ بدوره يريد اصوات الوسط وبعض اليمين الاسرائيلي ولن يقدم تنازلات تفاوضية قبل الانتخابات، وسينسى الجميل الفلسطيني بعدها، وهو يؤكد من الان انه لن يوقع على اتفاقيات قبل الانتخابات، وبالتالي سيعيد الجميع الى نفس الدوامة في ما بعد بما فيها عنصر الضغط العسكري الارهابي. مفاوضات طابا الحالية، مثل أي مفاوضات اخرى، سوف تصاحبها ثلاثة مسارات تحاورية تشتد او تضعف بالاقتراب او الابتعاد عن التوقيع على اتفاقية نهائية للقضية الفلسطينية... تلك المسارات اولها التراشق بين الرافضين وبين المروجين للسلام التلفيقي المطروح طوال العقد الماضي، وثانيها البحث في تساؤلات مثل: هل الحلول المطروحة هي افضل الممكن للطرفين؟ وما هي البدائل الاكثر منطقية؟ والمسار التحاوري الثالث يدور حول سؤال هل تريد اسرائيل السلام فعلاً؟ مررنا مراراً على تراشقات الرفض والترويج، وكان آخرها ما قاله الرئيس السابق كلينتون للفلسطينيين علناً بأن الرافضين منتفعون يتعيشون من الازمة ومن شقاء المخيمات والفقر. وكانت مراكز ومؤسسات وافراد عرب قد تحدثوا بمثل هذا المنطق في ظروف متكررة ابان اقتراب الحلول وبعيد التوقيع على اية اتفاقيات، وقيل ايضاً ان الرافضين يجلسون في القصور والراحة والنعيم ويرفضون. على الطرف الآخر يقول الرافضون ان المروجين هم المستفيدون من الحل حتى الآن، وانهم لا يراعون مصلحة الاغلبية، وادمنوا مفاوضات وحفلات توقيع، ويخافون من الصمود والنضال لتعديل الموازين ان يؤثر على مكاسبهم الذاتية، وغير ذلك الكثير من التهم الشخصية والعامة. مثل هذا التراشق يتجاهل الحقائق على الارض ويركز على الظواهر الشكلية ولا يعطي في النهاية من النتائج اكثر من الافساد المؤقت داخل الصف الواحد. من الحقائق الجلية ان الانتفاضة الاولى هي التي مهدت للمفاوضات واكدت رغبة الشعب في السلام العادل، ولكنه لم يأت طوال عشر سنوات، وساءت حالة غالبية الناس عما كانت عليه قبل السلام، بينما تولدت فئة منتفعة من الوضع المهلهل. اما الانتفاضة الحالية فكانت نتيجة للوضع ورافضة للمساومات، أي ان الرافضين الان ليسوا سوى صناع الانتفاضة الثانية وجلهم من الفقراء المعدمين. الحلول المطروحة من اميركا كلينتون واسرائيل في افضل حالاتها تتعارض مع مصلحة الاغلبية الفلسطينية اذ تسلب الحقوق المعنوية والمادية، ولا تقدم بديلاً افضل... المتضررون من هذه الحلول هم الاغلبية الفلسطينية (ناهيك عن الضرر العربي الاستراتيجي) والرافضون على الارض ونضالياً هم الاغلبية الفلسطينية كما نرى.

الترفيع لهذا التراشق يدخلنا الى المسار التحاوري الثاني: هل الحلول المطروحة هي افضل الممكن للطرفين؟ وما هي البدائل الاكثر منطقية لتحقيق السلام وضمان استمراره؟ لا بد من البناء على التعادل بين الطرفين ضمن المقومات العالمية الحضارية المشتركة... أي ازالة الظلم بإعطاء المظلوم على حساب الظالم للتسريع في الوصول للتعادل. هذه الفلسفة او أي نظرية اخرى حضارية لا نجد لها صدى في الحلول المطروحة التي تعمق الظلم وتشرع للنهب وتبني على التمييز العرقي والديني وتفرض النتائج بالقوة المسلحة، ولا تتهاون عن الابتزاز المكثف. الحل ضمن هذه التصورات المتكررة منذ حوالي عشر سنوات ليس الافضل للطرفين، ولا حتى الافضل لاسرائيل، لان مصير هذا الحل هو الفشل والخراب بعد تعميق المشاكل. كيف تريد اسرائيل الاحتفاظ بهويتها اليهودية العنصرية البحتة في المحيط العربي على المدى المتوسط؟ السلام يعني الانفتاح، والعزلة تؤدي للحرب... أليس من الاجدر لها، عبر الانصاف، الانفتاح السياسي والمعنوي على الفلسطينيين كمدخل للانفتاح في المنطقة؟ يمكن لاسرائيل القبول بالسلام العادل والتعايش، مع الاستمرار في وظيفتها الاساسية كملجأ امن لكل اليهود، علماً بأن اعداد المهاجرين في تناقص شديد، وحوالي نصف مليون من المهاجرين الروس في السنوات الاخيرة ليسوا يهوداً على الاطلاق... ولان اسرائيل تنقصها العمالة الزراعية والصناعية، ولأن اللاجئين الفلسطينيين تنقصهم الوظائف وبحاجة الى حقوقهم، فإن المنطق يقر بمنحهم حق العودة والانخراط في الاقتصاد الاسرائيلي مع الارتباط السياسي بالدولة الفلسطينية المجاورة او المرتبطة فدرالياً مع اسرائيل. مثل هذا الحل سيفيد اسرائيل كثيراً دولياً وشرعياً واقتصادياً... وسيريح الفلسطيني نفسياً ويمنحه حقه ويفتح امامه الخيارات للعيش في اسرائيل او بيع املاكه والانتقال الى الشطر الفلسطيني او الهجرة خارج المنطقة كلها بعد ان يكون الصراع قد انتهى فعلياً وذابت عناصر الشد النفسية واتيحت الفرص الكاملة لاخذ الحقوق. لا يغيب ايضاً عن البال ان الحل بهذا الشكل سينهي بقية المشاكل المستعصية تلقائياً وفي مقدمتها القدس والاستيطان، لان حرية العيش في ظل الانفتاح الجغرافي الفلسطيني ـ الاسرائيلي والاحترام المتبادل بين الطرفين تُلغي اهمية السيادة السياسية على بقعة محددة طالما وجدت حرية الوصول اليها والحفاظ عليها... ولا تعد هناك اهمية لوجود مئات الوف المستوطنين في الضفة والقدس اذا دفعوا ثمن الارض لاصحابها، واذا اتيح للاجئين الفلسطينيين العودة والسكن في اسرائيل والتصرف في املاكهم هناك... وما ينطبق على الفلسطيني في اسرائيل سياسياً واقتصادياً سينطبق على المستوطن اليهودي في فلسطين.

ما سبق ذكره يمهد الطريق للتأمل في المسار التحاوري الثالث الذي يطرح عادة في مواسم المفاوضات، وعماده سؤال: هل تريد اسرائيل السلام العادل والدائم فعلاً؟ منذ تكوينها رفضت اسرائيل عودة اللاجئين، ورفضت التعايش المتعادل والمساواة بين العرب الذين صمدوا في ارضهم وبين اليهود من شتات العالم. في اسرائيل اليوم بعد اكثر من نصف قرن يوجد لاجئون فلسطينيون يحملون الجنسية الاسرائيلية ويمنعون من السكن في بيوتهم والعمل في ارضهم. التمييز بين العربي الاسرائيلي واليهودي حقيقة قائمة في كل المجالات ولا تنكر من احد، وعندما اراد عرب اسرائيل التعاطف والتعبير عن موقف سياسي في بداية انتفاضة الاقصى قتلت الشرطة ثلاثة عشر منهم لافهامهم بحقيقة موقعهم. بعد احتلال الضفة والقطاع اشرفت اسرائيل على السكان الفلسطينيين وعلى الارض والمخيمات وحوالي مليوني لاجئ، وكان من الممكن لها ان تساعدهم على البناء والتعمير في الاراضي العمومية وتخرجهم من المخيمات طوعاً وتحسن معاملتهم بالمعروف، الامر الذي كان سيمهد للتفاهم والسلام ويفيد كل الاطراف، لكنها فعلت العكس، اخذت الارض للاستيطان، افقرت الناس اكثر، شوهت التعليم وزرعت الحقد عبر الظلم حتى جاءت الانتفاضة وتوابعها من محاولات السلام الحالية. ومن عشرات الامثلة الدسمة على افشال اسرائيل للسلام في الماضي والحاضر تهرب حكوماتها من تنفيذ الاتفاقيات. فاسحق رابين لم ينفذ ما وقع عليه هو نفسه، وبيرس لم ينفذ ما وقع عليه رابين، ونتنياهو لم ينفذ ما سبق ولا ما وقع عليه شخصياً، وكرر باراك ما فعله رابين وبيرس ونتنياهو. الذي يتعامل مع جيرانه بهذا الشكل لا يريد الحياة بسلام معهم... مشكلة اسرائيل الصهيونية انها تريد فلسطين بدون فلسطينيين وبدون عرب مجاورين، وما زالت قياداتها السياسية تغمض عيونها عن التطورات العالمية والاقليمية وتعمي الاسرائيليين عما يدور بينهم. في عالم اليوم لم تعد العنصرية مقبولة، وتقدمت حقوق الانسان الى اولويات مهام المجتمع الدولي، ولم تعد نتائج الحرب مضمونة سلفاً، كما ان العزلة الاقتصادية الاقليمية تقترب من عالم المستحيل... وعقلية الجيتو النووي غير صالحة الى ما لا نهاية كما اتضح ايام حكم نتنياهو حين كثرت اقاويل ان العالم كله يكره اسرائيل ويعاديها... انهم باختصار لم يستوعبوا حتى ما ادت اليه الانتفاضة الاولى والثانية من تغيرات فلسطينية واسرائيلية وعربية وعالمية، وحتى يتم الاستيعاب سوف نستمر في مواجهة خطر الحرب.