المقال الكويتي وفك الحصار: اتجاه أم رأي؟

TT

كانت «الرأي العام» من اوائل من قدم الى «شارع الصحافة» في الكويت، الذي بدأ حياته منطقة صناعية تكثر فيها المرائب. لكن في ملكيتها الجديدة كانت آخر او احدث من دخل عصر التصنيع الصحافي والمطابع الالكترونية. وجاء رئيس التحرير الجديد، الاستاذ جاسم بودي، كالعادة من العائلات التجارية الرئيسية التي عززت حضورها المالي في البنوك والشركات بحضور سياسي من خلال الجرائد المتنافسة على قارئ محدود العدد وسوق اعلانية بلا حدود.

قلت «العائلات التجارية» لان مثل هذا التحديد له مدلوله في المجتمع الكويتي. «فالتجار» في الكويت لقب تشريفي لا انتقادي. و«الغرفة التجارية» مركز من مراكز الكيان والدولة. وبسبب رئاسة عبد العزيز الصقر لم تكتف الغرفة ببعدها المحلي السياسي بل اتخذت بعدا عربيا لا يفارق عائلة الصقر الناشطة في الاقتصاد والبرلمان والصحافة والعمل القومي. وقد كان من الضروري اثبات هذه التوضيحات من اجل القول ان بعض الصحافة الكويتية تمثل اكثر من نفسه ومن قارئه وانه يمثل الشراكة غير المعلنة بين الاسر الكويتية الرئيسية وبين الحكم، او بالاحرى بينها وبين القرار الوطني، ومن كل هذا التقديم اصل الى مقال الاستاذ جاسم بودي في «الرأي العام» اوائل هذا الاسبوع، وهو اول مقال يظهر في الكويت منذ الاحتلال والتحرير ويدعو الى رفع الحظر عن العراق.

هل يجب اعتبار مقال افتتاحي في صحيفة رئيسية حدثا او تحولا سياسيا جذريا او مقدمة لحدث او تغيير؟ تمارس الصحافة الكويتية حدا كبيرا من الحرية، لكنها في الشأن الوطني تضبط ايقاعها دائما على التوافق الوطني. وفي الكويت عادة حضارية جدا في العلاقة بين الصحافة والدولة. فالامير او ولي العهد يأخذ رؤساء التحرير معه في اي زيارة خارجية يقوم بها من اجل ابقائهم على اطلاع على العلاقات مع الدول، كما ان واحدا منهما، وغالبا امير الدولة، يعقد مع رؤساء التحرير اجتماعات طارئة او دورية لوضعهم في اجواء قضية عربية ما، وموقف الدولة منها. ومن هنا لا يمكن التخمين بأن مقال جاسم بودي قد نشر بالتنسيق مع الدولة لكن لا يمكن الاعتقاد بأن رجلا في موقعه يمكن ان يوجه دعوة مخالفة للتوافق الوطني.

في الحالتين، او في كل الحالات، يشكل المقال اول محطة كويتية في هذا الاتجاه، او اول مصارحة كويتية في هذا المعنى، او اول خرق لقاعدة ثابتة في العقد الماضي، ترفض فتح اي نافذة على العراق الذي تحول من دولة محتلة تظلم جارها الى دولة محاصرة يحيق الظلم باطفالها ومرضاها، ويهدد الحصار سيادتها الوطنية ووحدتها الوطنية وموقعها القومي.

كان الموقف الكويتي مهما في مسألة الحصار، على الاقل من الناحية النفسية. وما لم تقرر الكويت او تقبل طي الصفحة المؤلمة، فسوف يكون محرجا لبعض الدول العربية وبعض دول الخليج في صورة خاصة، ان تطوي هي تلك الصفحة على جرح كويتي. فالحصار قد بني على شكوى كويتية لا على قرارات مجلس الامن، والاحتلال هو الذي شق العرب وادى الى الحرب والحرب ادت الى الواقع الدولي الحالي. لكن بغداد السياسية رفضت ايضا وطوال الوقت ولا تزال ترفض ان تعطي الوقت البادرة المشجعة التي تنتظرها من اجل البدء في الطرق على الجليد. وفي الوقت الذي كانت «الرأي العام» تنشر مقالا افتتاحيا تعرف سلفا انه سوف يثير في وجهها انتقادات كثيرة، كانت صحيفة «بابل» تنشر تلك الخريطة التي تهز استقرار الخليج منذ ايام عبد الكريم قاسم وتستدعي نزول القوات الاجنبية منذ تلك الايام ايضا.

واضح طبعا ان خرائط «بابل» وتصريحات المسؤولين العراقيين في نفيها ثم التصريحات الاخرى في نفي النفي، هي جزء من مخاض سياسي دولي وعربي واقليمي يرافق ويتزامن مع المتغيرات القائمة. فالحصار بدأ يتساقط منذ فترة غير بعيدة. وكان لكل دولة عربية دورها واسبابها ودوافعها. فالسبب الاردني هو غير الدافع السوري. وكلاهما يختلف عن دوافع مصر وعن دور مصر في هذه المسألة. ولكل دور أبعاده ومضمونه السياسي. فالمصالحة التدريجية بين سورية والعراق تحقق ـ للبلدين ـ شيئا مختلفا عما تحققه للاردن المتعثر بحمله الاقتصادي وديونه الثقيلة وتحديات الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. ولا تعتمد سورية كما يعتمد جارها الاردني على حيويات العلاقة العراقية، وخصوصا النفط الذي يأتيه مخفوض السعر وان يكن دون احلامه في الخفض بكثير. فلا يزال السعر العراقي مرتفعا بالنسبة الى دولة تنوء تحت 9 مليارات دولار من الديون. وكان الملك عبد الله يأمل في بداية عهده بان يلغي الجزء الاكبر منها، وان يعوض الاردن على سياساته «الانفتاحية» او «السلمية»، لكن شيئا من ذلك لم يحدث. ولم تتلق عمان ايضا المساعدات التي كانت تأمل بالحصول عليها، خصوصا من الامارات والخليج، وبصورة خاصة عن طريق فتح الابواب امام عدد كبير من العمال والموظفين الاردنيين. وفي هذا الاطار يمكن ان يفهم سفر رئيس الوزراء الاردني الى بغداد كأول رئيس وزراء عربي. وتمر العاصمة الاردنية في تحولات سياسية كثيرة هذه الايام. فقد غابت وجوه كثيرة رافقت مجيء الملك ويتوقع عودة وجه اخرى. وكان من ابرز الغائبين رئيس الوزراء السابق عبد الكريم الكباريتي ومدير المخابرات سميح البطيخي في حين تتحدث عمان اليوم عن رد الاعتبار لولي العهد السابق الامير الحسن بن طلال.

وقد شهدت الساحة الاردنية فورانا سياسيا واسعا في اعفائه وتشهد حركة واسعة عشية الاعلان عن عودته الى دائرة الضوء والقرار. وفي هذه الدائرة بالذات تقع ايضا مسألة العلاقة مع العراق ومداها، كما تقع العلاقة مع الوضع الفلسطيني وتطورات المنطقة التي قد ترى ارييل شارون من جديد. لكن هذه المرة ليس على خرطوم دبابة بل في موقع رئيس الوزراء وزعيم اسرائيل.

فلنعد الى الحصار: يقول وزير الاعلام العراقي همام عبد الخالق في مقابلة مع «اخبار الخليج» البحرينية يوم الاحد الماضي (21 يناير/كانون الثاني) الآتي: «الحقيقة ان الحصار ليس اميركيا وبريطانيا فقط. انه عربي ايضا. واتصور للدلالة على ذلك انه اذا ما قالت دولة عربية واحدة مثل مصر، وهي دولة كبيرة ولها ثقل ووزن كبيران في الوطن العربي والعالم: خلاص. خلاص. ما حصل حصل وكفى ولن نتعامل مع الحصار بعد الآن، لا بد ان تتبعها دولة عربية تلو الاخرى، وهكذا حتى يتلاشى الحصار».

هل يوضح هذا الكلام سبب زيارة طه ياسين رمضان الى القاهرة؟ هل «كلفت» مصر دورا ما، في الموضوع العراقي الذي كلما ازداد الحصار تفككا ازداد بعده السياسي غموضا؟ ان دخول مصر ـ اذا حدث ـ وسيطا في مسألة الحصار، مضاف الى تحسن العلاقة بين دمشق وبغداد، يعني عمليا وفي صورة مباشرة تأثر التحالف السياسي الذي يربط دول «اعلان دمشق». وحتى الآن تضبط مصر اعادة العلاقة مع بغداد على ايقاع محسوب يأخذ في الاعتبار علاقات القاهرة المتعددة، وخصوصا مع الكويت، حيث تعيش وتعمل جالية مصرية كبرى منذ اربعة عقود. ومن هنا نعود مرة اخرى الى الكويت ايضا: هل مقال جاسم بودي مجرد مقال افتتاحي فردي ومعزول ام هو كرة ثلج صغيرة مرشحة لان تكبر؟ هل الكويت قادرة على اتخاذ قرار بالمصالحة من دون مبادرة عراقية تتعدى ما قاله نائب رئيس الوزراء طارق عزيز وما كرره وزير الاعلام من ان «ما حصل قد حصل وكفى»، ام انها سوف تظل تنتظر دون جدوى لائحة الاسرى وبيان الاعتذار؟