لم يتغير (السجن) ولا التعذيب.. وإنما تغير (السجّان المعذِّب)

TT

هل هي خفة.. او موت ضمير.. او اندفاع مقامر ومغامر لاسترضاء جهات أمريكية، ولو باغضاب الشعور الوطني والانساني العام العراقي والعربي والاسلامي والعالمي؟

بعد ساعات من انكشاف (الخزي الأكبر) الذي ترجمته (صور ومشاهد) التفنن في تعذيب المعتقلين العراقيين واهانتهم واحتقار آدميتهم احتقارا دونه التعامل الهمجي مع الحيوانات والدواب ـ مع الاعتذار الشديد لهذه الاخيرة ـ لانها ـ بنص القرآن ـ امم امثالنا: «وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء».. ولهذه الامم غير الآدمية (حقوق) يجب ان تصان وتحترم، ولأن التعامل معها بخشونة وعنف وتوحش: ممنوع ومحرم. فلقد مر نبي الرحمة على ناس وهم يرمون كبشا بالنبل فقال: «لا تمثلوا بالبهائم».. ونهى عن «التحريش بين البهائم». اي تحريض بعضها على بعض لكي تتقرح وتنزف فيرفه المتفرجون ـ بذلك ـ عن انفسهم ويمتلئون لذة ومتعة (كما فعل المتفرجون على عذابات الآدميين في سجن ابي غريب).

قلنا: بعد ساعات من انكشاف خزي القرن الحادي والعشرين انبعث زعيم عراقي ليقول ـ وهو يبتسم ـ: «ان ما حدث في سجن ابي غريب لا يساوي شيئا بالنسبة لجرائم صدام حسين».. والمقارنة بين الجرائم ـ بهذه الصورة ـ سلوك او تفكير شاذ ـ الى ابعد حدود الشذوذ ـ عن مبادئ القانون واصول الاخلاق.. اذ ان هذه المقارنة تلطف وتهون من جريمة ما، اذا قيست بجريمة اخرى: اجرم منها واقبح.. فإذا قيست ـ مثلا ـ جريمة حرق الاكراد في حلبجة بالسلاح الكيمائي: بجريمة المحرقة النازية لليهود، فإن الجريمة الاولى تكون ألطف وأهون.. وهذا ليس في مصلحة الذين يستعملون معيار المقارنة بين الجرائم، لان جريمة حلبجة تتراجع عندئذ، كما ارادوا ان تتراجع جريمة تعذيب العراقيين في سجن ابي غريب بالنسبة لجرائم صدام حسين.. وهكذا، فإن التفكير اذا انطلق من قاعدة خاطئة: يضر اصحابه انفسهم، ويخذل قضيتهم.

انه تجرد من النزاهة الفكرية والسياسية والاعلامية والاخلاقية، ان يعمد احد ـ عراقي او غير عراقي ـ الى (تلطيف) قسوة جرائم سجن ابي غريب وشناعتها وقبحها وسوادها وهمجيتها.

فهذا التلطيف او التهذيب او التخفيف مماثل ـ بالضبط ـ لموقف الذين يلطفون جرائم الارهابيين في نيويورك والرياض وينبع والدار البيضاء ومدريد الخ.. ان زيادة مقدار الجريمة على المجرمين ـ ولو ذرة واحدة ـ هي ذاتها جريمة وعدوان. فشارون ـ مثلا ـ: عدو حقيقي ذو جرائم لا يحتملها ضمير ذي ضمير، انى كان عرقه ودينه وبيئته. ومع ذلك لا يحل لمسلم ان يزيد جرائمه بمفتريات اضافية، لان المسلم مأمور بالعدل في الغضب والرضا، مع الصديق والعدو.. وفي الوقت نفسه: لا يجوز لاحد ان يقلل من جريمة ذي جريمة ولو مثقال ذرة ولا سيما اذا كانت الجريمة واقعة على الانسان: على بدنه، وآدميته، وكرامته، وشرفه، وعرضه: على كيانه المعنوي والمادي معا.. فالتقليل ـ ذرة واحدة ـ من الجريمة: ظلم للحقيقة.. وظلم لمن وقعت عليه الجريمة: ظلم له بتلطيفها وهي غليظة، وبتهوينها وهي خطيرة، وبتهذيبها وهي ابشع ما يكون.. ثم ان التقليل من مقدار الجريمة: ظلم للناس اجمعين حيث ان من وقع عليهم الظلم يمثلون النوع الانساني كله.. ومن ظلم نفسا او عذب نفسا، فقد عذب الناس جميعا.

وكيف يجترئ انسان ـ يمتلك ادنى حظ من الشعور الانساني ـ على التهوين من جريمة سجن ابي غريب، بينما الوقائع المستفيضة تثبت انها: ضخمة.. ضخمة.. وخسيسة جد خسيسة.. ومهينة كأقبح ما تكون الاهانة؟.. لقد حصلت مجلة (نيويوركر) على تقرير للجيش الامريكي اجازه اكبر قائد ميداني أمريكي في العراق وهو الجنرال (ريكاردو سانشيز).. ومما قالته المجلة: ان قائمة الانتهاكات شملت ـ كأمثال ـ: صب السوائل الفوسفورية على المساجين وتهديد المعتقلين بالاغتصاب وادخال مصابيح كيماوية وعصي المكانس في ادبار المعتقلين، كما اظهرت الصور جنودا امريكيين وهم يبتسمون او يقفون للتصوير او يتضاحكون ويتغامزون ويشيرون بعلامات النصر «!!» فيما تكدس سجناء عراقيون وهم عراة في شكل هرم، وأجبروا على اتخاذ اوضاع كما لو كانوا يمارسون الجنس: بعضهم مع بعض.. ونشرت صحف بريطانية ايضا صورا تظهر جنديا بريطانيا وهو يتبول على اسير عراقي مكبل.

وثمة تقرير اوروبي مشترك يقول: ان صور تعذيب العراقيين المعتقلين التي ظهرت حتى الآن ليست هي (كل شيء)، فهناك ما هو مثلها وابشع منها في سجون ومعسكرات اخرى، ولا سيما معسكر (كروبر) بالقرب من مطار بغداد.. ومن المعلومات القوية الصاعقة، التي ـ انتظمها التقرير ـ، قوله: ان الحكومة الامريكية على دراية تامة بحدوث عمليات تعذيب منظمة ومنهجية وان هناك تقريرا رسميا امريكيا صادرا عن فرع قوات المشاة في البنتاجون يفيد بوقوع عمليات تعذيب بشعة، وان ضباطا وشهودا كثيرين قد تعرضوا لضغوط هائلة تلزمهم بالصمت تجاه ما شهدوه، وان من صور التعذيب: اغتصاب منظم للنساء وهتك اعراض الرجال واطلاق الكلاب على المصابين.. يتأيد ذلك ويتوثق بتقرير الجنرال (انثونيو تاغوبا) وهو تقرير ينقض ما زعمه وزير الدفاع الامريكي الذي ادعى بأن التعذيب ليس الا (تصرفات فردية محدودة ومعزولة..).

يقول التقرير: ان التعذيب والاهانة والتحقير كانت (عملا منهجيا) منظما ومنتظما. وقد ارتكبت هذه الانتهاكات المنهجية بطريقة متعمدة مارستها عناصر في قوة الحراسة في الشرطة العسكرية. وهناك افادات وصور وافلام مفصلة تثبت ذلك. وهذه الوثائق التي تكشف اشد الافعال قبحا موجودة بين يدي قيادة التحقيقات الجنائية وفريق الادعاء الامريكي.. ومن صور الانتهاكات: ارغام معتقلين ذكور على ارتداء البسة نسائية داخلية وتطويق رقاب معتقلين ذكور عراة بجنازير كلاب والتقاط صور فوتغرافية معهم وإقدام عنصر من الشرطة العسكرية على اغتصاب معتقلة وممارسة الجنس معها.. وهؤلاء الذين قاموا بهذه الافعال تلقوا ثناء واطراء من رؤسائهم: تقديرا لهم على ما فعلوه. ومن مضامين هذا الاطراء (لقد قمتم بعمل ممتاز انهم ينهارون بسرعة ويجيبون عن كل سؤال ويعطون معلومات قيمة، استمروا في هذا العمل الممتاز وحافظوا عليه).. وقد انتظم التقرير قائمة بأسماء عشرات الضباط والرقباء الامريكيين وقائمة اخرى بأسماء المتعاقدين المدنيين وفي مقدمتهم (جون اسرائيل) وهذه الاسماء المثبتة في القائمتين هي المسؤولة عن الجرائم والانتهاكات التي كانوا على علم ببعضها والتي شاهدوا بعضها الآخر بأعينهم. ومن هؤلاء الشهود (ديفيد دينينا) الذي اشرف بنفسه على رمي احد المعتقلين من شاحنة: استقلها هو وجنوده.

هذا (جزء) من ركام جرائم التعذيب والقهر والاذلال ومسخ الآدمية وسائر الافعال الهمجية التي يمارسها زبانية الاحتلال في العراق.

وفاقد الانسانية.. عديم الضمير والخلق.. مجرم ـ شريك في الجريمة ـ: من يعمد الى التهوين من هذه الجريمة او تلطيفها، سواء كان الملطفون امريكيين او غير امريكيين.. ومن هذه التلطيفات ـ المستهزئة بعقول الناس ـ: حشر مسألة الديمقراطية في الموضوع. فيقال ـ مثلا ـ: ان الديمقراطية هي التي سمحت بمعرفة الفضيحة وهذه مغالطة غير لطيفة.. لماذا؟: لان الشفافية المدعاة كانت غائبة، بدليل: ان الاعلام كان (محجوبا) بصراحة عما يحدث، وان هناك اوامر حاسمة بألا يحكي احد شيئا عما يلمسه ويراه، وان الكونجرس نفسه لا يدري عما جرى شيئا، وان رامسفيلد نفسه قال: «لقد عرفنا بالامر في 13 يناير 2004».. ولكن لم يعلن شيء.. والحقيقة ان الاعلام بالفضيحة حصل من حيث لا يحتسب المتلبسون بها، فليس لهم من ثم ان يباهوا بحكاية الديمقراطية ولا ان يتنجح بها عرب والا كان مثلهم كمثل من فعل فضيحة فأخفاها ثم ضبط متلبسا بها، وهنالك ـ فحسب ـ جهر بما كان يخفيه وزعم انه شفاف!!.. ان الاعلان عن الجريمة لا يقلل من بشاعتها ولو كان الامر كذلك: لتناقصت ـ الى ادنى حد ـ: بشاعة الجرائم التي يقترفها الجيش الصهيوني ضد الفلسطينيين، فالصحافة الاسرائيلية تنشر شيئا من هذه الفظائع، بل ان شارون نفسه يعلن انه سيغتال فلاناً وفلاناً ثم ينفذ ثم يعلن ما تفوه!.

ان الامر اعمق وابعد مدى من ان يحصر في تصرفات فردية، باشرها شبان نزقون. اذ ان وراء ما حدث (فلسفة مسبقة) تسوغه او تغري به. ومن مفاهيم هذه الفلسفة: مقاومة الادارة الامريكية الضارية لوجود (محكمة جرائم حرب دولية): واوامر الحاكم الامريكي للعراق: القاضية بمنع المحاكم العراقية كافة: النظر في اي دعوى قضائية تتعلق بالجنود الامريكيين في العراق.. ومن يشعر بأنه فوق القانون والمحاسبة: يقترف ما يشاء وهو مطمئن!!.. يضم الى ذلك: مفاهيم اخرى ـ شديدة الصراحة والفجيعة ـ وهي مفاهيم افصح عنها شخصيات غربية ـ امريكية وغير امريكية ـ. فقد قال (ريتشارد كلارك) ـ مستشار الرئيس الامريكي السابق لمكافحة الارهاب ـ: «ان ما حدث زاد الانطباع بصليبية المعركة الدائرة حاليا ضد الشعوب العربية والاسلامية، وهذا تفسير.. ايديولوجي او عقدي ـ بالغ الرهبة ـ لهذه الاحداث الغريبة المريبة.. اما (روبرت فيسك) البريطاني، فيُدخل في التفسير (عاملا عنصريا) فيقول: «لماذا نستغرب عنصريتهم وقسوة قلوبهم تجاه العرب. فقد جاء الجنود الامريكيون العاملون في سجن ابي غريب. وكذلك الجنود الشبان البريطانيون: من مدن وبلدات تعتبر موطنا للعنصرية والكراهية في تينيسي ولانكشير. اضف الى ذلك: التأثير السام والعنصري لمئات الافلام التي تنتجها هوليوود والتي توسم العرب بصفات سيئة منها انهم شعب عنف ولا يوثق بهم قط».

ونتم المقال بالنقط التالية:

أ ـ من تداعيات هذه الانتهاكات لحقوق الانسان: توسيع نطاق الارهاب كما قال الكولونيل ديفيد بلاك.. ومن المقدر ان تستمر هذه الاساءة (طويلة المدى) امدا طويلا.

ب ـ اننا اذ ندين الظلم والظالمين: نحذر من الوقوع في ظلم آخر: وهو (ظلم التعميم) فليس كل الشعب الامريكي مجموعة من الجلادين وزبانية التعذيب والقهر والاذلال. وبرهان النفي هو: ان اصواتا امريكية كثيرة في الكونجرس والنخب المثقفة والاعلام قد ارتفعت بتجريم ما حدث: معلنة براءتها من الجريمة الفضيحة.

ج ـ ينبغي تجديد الوعي والاقتناع بـ (الرحم الانساني العام) فمن خلال هذا الحدث الصاعق وجدنا انفسنا اقرب الى شرفاء امريكا واحرارها وعقلائها ـ بمقياس الانسانيات العامة ـ، منا الى عرب ومسلمين لا شرف لهم ولا ضمير ولا عقل.

يا حسرة على امريكا: ما يأتيها من نصح من داخل بيتها، او من الاسرة البشرية الكبرى الا اعرضت عنه، او حيل بينها وبين الاصغاء اليه والحائل هو: (الهدامون الجدد) المتصهينون الذين يخونون الولايات المتحدة بالتضحية بمصالحها وسمعتها في سبيل تفكير صهيوني متحجر ومستكبر ومدمر.

نعم. ان ابداء الاسف يتضمن الاعتراف بالاثم. بيد ان الحقيقة التي لا تلغى هي: ان الكارثة الماحقة قد حدثت. وان صورة امريكا وسمعة جيشها قد شاهتا.. وبالنظر الى المستقبل، فلعل زلزال فضيحة التعذيب في العراق يصبح (قاعدة زمنية ونفسية وموضوعية) لتقبل هذا النصح وهو: ان الخيار الوحيد امام الولايات المتحدة لترميم التصدعات التي رجّت مكانتها هو: اعادة تقويم سياستها الخارجية وفق معيار المصلحة الوطنية الامريكية العليا المتحررة والمجردة من الاجندات والمشورات الصهيونية التي تورطها في ازمات قاتلة مثل المستنقع العراقي الذي بدد الرصيد الامريكي الهائل: السياسي والاخلاقي والانساني والحضاري بسبب الربط الصهيوني المتعمد والخبيث بين ما يفعله شارون في فلسطين، وما تفعله الادارة الامريكية في العراق..