حصاد لا يبشر بالخير

TT

في نوفمبر الماضي كان كبير الاقتصاديين في «هريتدش فاوندويشن» متفائلا جدا حول أوضاع العراق، إذ قال إن بول بريمر استبدل النظام الضريبي لنظام صدام حسين القائم على شعار: إغراق الأغنياء بنظام الضريبة الواحدة. وكتب الاقتصادي دانيال ميتشيل:

« قليل من الأميركيين يمكن أن يقبلوا استبدال أوضاعهم بأوضاع العراقيين. ولكن عندما يأتي العام المقبل ربما يتساءل الكثيرون عمن الأفضل حالا؟» ولكن حتى عندما كان ميتشيل يسطر كلماته تلك كان التمرد في العراق يصل إلى مرحلة الغليان، هذا قبل أن يصبح الوضع ميئوسا منه عندما حلت بداية السنة المالية.

وقد كتب الكثير عن الدمار الذي أحدثه أيديولوجيو السياسة الخارجية الذين تجاهلوا حقيقة الاوضاع في العراق، معتقدين أنهم يمكن أن يستخدموا تلك البلاد للبرهان على صحة أفكارهم العسكرية والسياسية. ولكن لم يكتب إلا القليل عن تلك الأحلام الرامية إلى تحويل العراق إلى أنموذج باهر للتجارة الحرة، وللسياسات الضريبية المتساهلة والخصخصة، وهي أحلام تتجاهل بدورها واقع العراق، وكان من نتائجها عرقلة فرص الانتقال الناجح إلى حكم ديمقراطي.

ويعتقد كثير من الناس، من بينهم جاي غارنر، الإداري الأميركي الأول في العراق، أن إدارة بوش تفادت إجراء انتخابات مبكرة في العراق، كان من شأنها أن تسبغ الشرعية على الحكومة الانتقالية، لأنها كانت تريد فرض سياسات اقتصادية لم تكن تتصور أن حكومة منتخبة يمكن أن توافق عليها. وفي الحقيقة فإن سلطة التحالف الانتقالية استطاعت خلال العام المنصرم أن تخفض من الرسوم الجمركية وتوحد الضرائب وتفتح أبواب الصناعة العراقية على مصراعيها أمام المستثمرين الأجانب، مما عزز من إحساس العراقيين أننا جئنا إلى بلادهم غزاة لا محررين.

ولكن الاعتماد على مقاولين أفراد وشركات خاصة لأداء مهام تنفذها عادة الحكومات، هو الذي تحول إلى شبح يطاردنا في الحل والترحال. ومعروف أن المحافظين يحولون خصخصة الوظائف الحكومية إلى نوع من الصنم المعبود. وكان جورج بوش قد أعلن بعد انتخابات 2002 التكميلية، أنه سيخصخص 850 ألف وظيفة فيدرالية. ولكن لأنه يخشى ردود الأفعال فقد سار في هذا الطريق بحذر شديد داخل الولايات المتحدة. أما في العراق، حيث لا توجد رقابة من الكونغرس أو من الجمهور، فإن الإدارة خصخصت كل شيء تقريبا. وعلى سبيل المثال فإن البنتاغون لديه مكتب مشتريات للمواد البترولية مؤهل جدا. ولكن هذه الإمدادات أعطيت من الباطن لشركة هالبيرتون. ولدى حكومة الولايات المتحدة الأميركية كثير من الخبراء في الاقتصاد والتنمية والإصلاح. ولكن التخطيط الاقتصادي في العراق أسند، بعد عملية فرز مثيرة للريب والجدل، إلى شركة «بيرنغ بوينت» للاستشارات والتي لديها علاقات قوية مع الحاكم جيب بوش.

ولكن ما يسبب الصدمة في العراق هو خصخصة الوظائف العسكرية البحتة. وقد أسندت بعض الوظائف غير الأساسية التي ظل يقوم بها طوال العقود الماضية جنود عاديون، إلى متعاقدين من القطاع الخاص في الوقت الحالي. وعندما قتل أربعة من المقاولين الأميركيين ومثل بهم في الفلوجة، كإشارة لبداية تمرد واسع شرس، وضح أن الولايات المتحدة وسعت عملية الخصخصة لتشمل مهام عسكرية في الصميم. وبالطبع فإن قيام المدنيين يقيادة الشاحنات ونقل الأطعمة شيء مختلف جدا عن توظيفهم حراسا شخصيين للمسؤولين الأميركيين، وللمنشآت الأميركية، بل وتعيينهم محققين داخل السجون العراقية، وهو ما كشف النقاب عنه أخيرا.

وتشير التقارير الواردة في عدد من الصحف أن موظفين في شركتين خاصتين هما «سي إيه سي آي»، و«تايتان»، يعملون محققين في سجن أبو غريب. ويقول سيويل شان من «واشنطن بوست»، إن هؤلاء المحققين الخاصين تشملهم التحقيقات الدائرة حاليا حول تعذيب السجناء العراقيين. وكما يقول أحد كبار المحللين فإن ذلك التعذيب« كاد أن يحطم نهائيا كل تأييد حظي به التحالف وسط الفئات المعتدلة من الشعب العراقي».

ربما تتساءل عما إذا كان توجه زعمائنا للخصخصة تعبيرا عن موقف ايديولوجي مخلص، أم هو محاولة لإغناء أصدقائهم؟ وربما تكون الإجابة هي الإثنين معا. وربما تكون سياسة مكافأة المتبرعين للحملة الانتخابية سياسة ذكية حتى إذا عادت بالخسائر على البلاد ككل. ولكن الوضع مختلف في العراق. والواقع العراقي لا يمكن تجاهله. وبفضل فرسان الأيدولوجيا اليمينية الذين وضعوا سياساتنا طوال العام الماضي، فإن الواقع العراقي يبدو حاليا شديد الجهامة.

* خدمة «نيويورك تايمز»