البحث عن الحداثة الضائعة

TT

لو سألني احدهم ما هو السؤال الأساسي الذي اخترق قمة بيروت الفكرية لأجبته: انه سؤال القطيعة الراديكالية مع ما هو ميت ومتكلس ومتحجر. وذلك لأن قشور التراث هي التي تهيمن علينا اليوم لا روحه ولا جوهره. لقد اقترب المفكر المغربي المعروف كمال عبد اللطيف من منطقة الأسئلة الممنوعة عندما تحدث عن الحداثة بصفتها سلطة العقل والنقد الذي ينبغي أن يشمل كل شيء في حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية. وكان بذلك وفياً لكانط، فيلسوف الأنوار الذي قال إنه لا ينبغي أن يفلت أي شيء من سلاح النقد العقلاني والمنطقي، لكن كمال عبد اللطيف نبّه بألمعية وذكاء إلى أن التاريخ ليس خطيّاً، أو لا يمشي بشكل مستقيم على طول الخط كما قد نتوهم في أكثر الأحيان. فالتاريخ قد يتراجع إلى الخلف بعد أن كان قد تقدم إلى الأمام، وبالتالي فمساره متعرج، حلزوني، أكثر مما نتصور. والدليل على ذلك أن التقدميين العرب في الستينات ما كانوا يتخيلون أن تحصل انتكاسة إلى الوراء وان تسيطر الحركات الاسلاموية المتطرفة على الشارع العربي.

ولكن هنا يطرح سؤال نفسه: هل كان التقدميون في الستينات تقدميين إلى الحد الذي نتصوره؟ هل حلوا مشكلة العراقيل التراثية عن طريق مواجهتها وجهاً لوجه أم عن طريق القفز عليها؟ أغلب الظن أنهم تحاشوا المواجهة المباشرة معتقدين بأن المشكلة ستحل نفسها بنفسها أو عن طريق مرور الزمن. فلا الأسئلة الحقيقية طرحت ولا التشخيصات العميقة للمرض العربي الإسلامي حصلت. وكان أن حصدنا النتيجة المنطقية لكل ذلك: أي انفجار الحركات الأصولية بكل هذه القوة والعنف.. كان محمد أركون في بداية المؤتمر الذي نظمته (المؤسسة العربية للتحديث الفكري) قد استشهد بعبارة شهيرة للمؤرخ الفرنسي ميشيليه، تقول العبارة: إن فرنسا صنعت فرنسا من خلال ذلك العمل البطيء والصبور والصعب لاشتغال الذات على ذاتها!

فمتى سيتاح للعرب أن يدخلوا التاريخ من خلال المواجهة الصريحة مع ذاتهم التراثية العميقة؟ متى سيدركون أنهم لن يستطيعوا الخروج من مأزقهم الحالي إلا بعد معاركة الذات لذاتها وانكشاف الحقائق المنسية والمطمورة إن لم اقل المطموسة؟ كل الأمم المتقدمة التي لها معنى على وجه الأرض قامت بتصفية حسابات تاريخية مع ذاتها قبل ان تكتشف طريق الخلاص وتمسك بأول الخيط.

لقد استفدت كثيراً من هذه الندوة التي جمعت أكثر من مائة وعشرين مثقفاً عربياً والتي امتلأت بصخب النقاش وتطاحن الآراء. وهذه هي الطريقة الوحيدة لفرز الأمور عن بعضها البعض وتوضيح الأشياء، ولكن يخيل اليَّ أن عنوان الندوة لم يكن موفقاً. فما معنى الحداثة والحداثة العربية؟ أما كان ينبغي القول: الحداثة العالمية والحداثة العربية؟ أليست المسألة هي التالية: كيف نتموضع بالقياس الى الحداثة الأوروبية ـ الأميركية التي أصبحت بحجم العالم حالياً؟ وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نبلور الحداثة العربية إلا بالقياس إلى مرجعية أخرى أكثر شمولاً وعمومية وأسبقية.

وهذه الحداثة الكونية هي التي تشكلت في عصر الأنوار في أوروبا بدءاً من القرن الثامن عشر، والتي أصبحت مرغوبة الآن حتى من قبل أمم كبرى كالصين والهند وروسيا واليابان بالطبع. وحده العالم الإسلامي لا يزال يستعصي عليها، أو هكذا يبدو. فالواقع أن العالم الإسلامي أكثر تعقيداً من ذلك لأنه مخترق من قبل التيارات الإصلاحية والتنويرية.

لقد حاول بعض المشاركين في مؤتمر بيروت تمييع المواقف وخلط الأوراق عن طريق القول: انتم تتحدثون عن الحداثة والناس دخلت في عصر ما بعد الحداثة، وبالتالي فأنتم متخلفون! إن هذه المزاودة الفكرية تدعو للضحك والرثاء في آن معاً. ومن يقول ذلك هو عدو للحداثة في الواقع ولا يريد للعرب ان يدخلوا فيها. كما انه يجهل أن ما بعد الحداثة ليس إلا تعميقاً للحداثة واستمرارية لها، كما قالت رجاء بن سلامة في مداخلة قيمة برهنت على أن المرأة العربية قادرة على منافسة الرجل العربي حتى في الحقل الثقافي، بل والتغلب عليه! صحيح أن الحداثة تعرضت للغربلة والنقد على مدار نصف القرن المنصرم أي منذ مدرسة فرانكفورت، ولكن هذا لا يعني التخلي عن أهم منجزاتها ومكتسباتها التي لا تقدر بثمن. وموقفي من هذه الناحية يشبه موقف الفيلسوف الألماني هابرماس الذي يقول بما معناه: الأنوار، كل الأنوار، ولا شيء غير الأنوار. ولكن منقحة ومصححة ومراجعة على ضوء تجربة القرنين الماضيين بكل خيرها وشرها، ُعجرها وُبجرها.

ولكن هل يمكن للقراء العرب أن يفهموا معنى نقد الحداثة الجاري حالياً في البيئات الفلسفية الطليعية في الغرب الأوروبي ـ الأميركي، من دون أن يفهموا معنى الحداثة ذاتها وكيف تشكلت وترعرعت ومارست نفسها عملياً وواقعياً؟ بالطبع لا. ولهذا السبب قلت إن على (المؤسسة العربية للتحديث الفكري) أن تهتم أولاً بنقل فتوحات التنوير والحداثة إلى العالم العربي ـ قبل أن تنقل الكتابات التي تنقد الحداثة المفقودة أو الضائعة حتى الآن في العالم العربي والإسلامي. فنحن ننقد شيئاً غير موجود بالنسبة للإنسان العربي حتى الآن، ولكنه موجود بشكل يومي محسوس بالنسبة للإنسان الأوروبي أو الأميركي، ولذا فلا ينبغي أن نخطئ في التقدير أو نقوم بخلط الأوراق، لأن عاقبة ذلك ستكون وخيمة بالنسبة للثقافة العربية. فما يحتاجه العرب أو المسلمون حالياً ليس نقد الحداثة في الواقع وإنما نقد ما قبل الحداثة. أي النظام القروسطي والظلامي للفكر. وهو النظام الذي قامت الحداثة على أنقاضه بعد أن فككته طيلة عصر التنوير وما تلاه، ولذلك دعوت في مقالات سابقة إلى تأسيس علم جديد هو: علم الأصوليات المقارنة. فلكي نفهم سبب مقاومة أصوليتنا للحداثة يكفي أن نلقي نظرة على مقاومة الأصوليين المسيحيين في أوروبا لهذه الحداثة ذاتها، ولكن قبل قرنين أو قرن من الزمن. فاليمين الكاثوليكي الفرنسي مثلا ظل يقاوم أفكار التنوير والثورة الفرنسية حتى بدايات القرن العشرين، بل وحتى عام 1962، تاريخ انعقاد المجمع الكنسي التحريري الشهير باسم الفاتيكان الثاني. ولم يستسلم اليمين الأوروبي للحداثة إلا بعد معارك طاحنة سجلتها كتب التاريخ. وبالتالي فالمعركة الفكرية الأساسية أمامنا وليست خلفنا. ويخطئ من يظن غير ذلك.