بين المراسل والمناضل

TT

لقد شرحت لك يا صديقي أن هناك فرقا بين المراسل والمناضل، إنه يمارس دوره الذي جبل عليه، إنه نتاج نصف قرن من ثقافة الحناجر، لا يمكن أن يتكلم أو يتعلم لغة جديدة، بل إن مجرد التفكير بتعلم لغة جديدة يعد من كبائر النضال، وهروبا من القتال، وجبنا وجنونا.

ليست تلك غلطته يا صديقي، إنه وليد الخطب والخطباء، وسليل الانقلابات والثورجيات، لقد امتلأت روحه ونفسه خطبا، لقد تلوى عقله هرجا، واشرأب ذهنه بالشعارات، إنه الشخص عينه الذي دمر إسرائيل في الساعات الأولى من حرب حزيران التي تحولت إلى نكسة، وهو نفسه الذي توعد بحرق إسرائيل، وهو الذي أسقط أباتشي العلوج بالبرنو، وهو الشخص ذاته الذي تخلى عن صعود الجبال وعاش بين الحفر.

لا تلمه يا صديقي، إنه في رحلة سرمدية من نضال الهزائم المتراكمة، لقد ولى الزمان وأتى زمان آخر، وهو متمسك بممارسة عادته السرمدية، يرى في نقل الحقيقة كفرا وتراجعا عن أداء مهمته المقدسة بالتحريض وخلق الوهم، ويرى في تشويه الحقائق جزءا لا يتجزأ من النضال، كيف تريد له أن ينقل الحقيقة كما هي وقد أدمن الزيف عصورا؟ إن نقل الحقائق جبن ومذلة، إن في التركيز على المذابح الجماعية وتكرار مشاهدها ونقاشها وتعلم دروسها تحريف للنضال، وصعقة للعقل، بل يرى أن المهمة الآن محصورة في تكرار صورة المعذبين العراقيين على أيدي الجنود الأميركيين، إن تلك ضالته المنشودة، لقد كشفت له وسائل الإعلام الأميركية أن بين الجنود الأميركيين من يعذب السجناء، لم تكتشفها كاميرات الحناجر، والغريب أن دهاقنة المعتقلات العربية كانوا أول من أدان تلك المشاهد وترحموا على حقوق الإنسان وتباكوا على اتفاقية جنيف.

إنه عصر الغرابة والغربة - يا صديقي، لقد تحول زبائن البطاقات النفطية في العصر الجحري (نسبة إلى صاحب الجحر)، إلى دعاة لحقوق الإنسان، لقد تعاموا طيلة عقود عن جرائم الطاغية (فللمال أفعاله تستبد) كما يقول مظفر النواب، بل كانوا شهود زور على منجزات الوهم، وانتصارات الحناجر، وها هم اليوم يذرفون الدموع على سجناء أبو غريب في العصر الأميركي، رغم أن السجن نفسه زهقت في غياهبه أنفس من التعذيب والقهر منذ عقود خلال العصر الجحري، وكان حزب الحناجر ينفث الخطب والشعارات، ويرسم السراب، ويشوه الحقائق، إنها رحلة النضال التي لا تتوقف ولا تنتهي، أو لم تختزل تلك الرحلة النضالية في شخص المناضل الختيار؟ القضية الفلسطينية بنضالاتها وشهدائها وتضحياتها تحولت بفعل الحناجر إلى حجرة في رام الله، وتسمر المشهد على سؤال واحد: هل يغتاله شارون أم لا؟ ثمة تشابه لفظي بين الجحر والحجرة.

إن المراسل ليس كالمناضل، بل إن كلمة مراسل قد تعني وظيفة عادية، مهمة من يقوم بها توصيل الرسائل، لا أكثر ولا أقل، يتوقف الإدراك متسائلا: وهل ثمة شيء أقدس وأطهر من إيصال الرسالة الأمانة ونقلها حرفيا كما وردت؟ إن الرسالة السماوية وصلت عبر رسولها صادقة واضحة ومنقولة بأمانة ومهنية متقنة، فالمراسل يشبه الرسل إن هو أوصل الرسالة ناصعة كما هي بحقيقتها، وهو آثم لا يؤتمن يحرف الرسائل، ويتلاعب بمحتواها، كي تصل ضمن مفهومه النضالي المعادي للحقيقة والأمانة.

ذاك - يا صديقي البون الشاسع بين المراسل والمناضل.