غربتنا في أبو غريب!

TT

جريمة ! ما حصل للسجناء العراقيين في سجن «أبو غريب»، جريمة في حق الإنسانية، لاُ تغتفر ولا تبرّر بأي شكل من الأشكال، لا شفاء منها إلا بمحاسبة الفعَلة حساباً عسيرا. لقد كانت مناظر مؤذية للضمير، جارحة للقيم ومستفزة.

الأنكى أنها تمت على يد الجيش الذي ُيفترض أنه جاء ليرسي ثقافة حقوق الإنسان في عراق ما بعد صدام حسين! وكان مفهوما بطبيعة الحال أن تؤدي هذه الفضيحة إلى استثارة العرب والمسلمين، وكل من تابع هذه الصور المرّوعة من البشر في أنحاء الأرض الأربع.

بيد أن أكثر ردود الفعل حيوية وأهمية، كانت في أمريكا نفسها، فلولا الصحافة الأمريكية، ربما لم نعلم بهذه الفضيحة إلا بعد سنين طويلة، شأن الأسرار الغامضة التي تكتنف الأحداث التاريخية الكبرى، فخزنة الأسرار مازالت مليئة منذ أيام الفراعنة !

الشارع العربي والإسلامي يستنكر ويشتم أمريكا ويشمت بها، هذا معتاد ويحصل باستمرار، سواء وُجد أبو غريب أو لم يوجد، حتى ان المتابع لم يعد يدري: هل بات بمقدور بعض الكتاب العرب أن يستخدموا عبارات أقسى تتناسب مع حجم هذه الجريمة، البشعة حقا، أم أنهم استنزفوا كل ما في كنانة الهجاء واعتصروا عروق الغضب إلى القطرة الأخيرة ؟!

إن الذين فضحوا الشرّ هم أنفسهم الذين ارتكب بعض أولادهم جرمه، وإن من كنس قمامة الساديين الأمريكان هم أمريكان آخرون. هم من وسّخ وهم منْ نظّف، في الحالتين كنا ننفعل بما يجري هناك!

الإعلام في أمريكا وفي بريطانيا، وفي الغرب كله فضح، ومازال، الجريمة، ولم يكتف بذلك، بل فتّش ونقّب، وردّ على الحجج الدفاعية، وما أقلّها، التي أدلى بها المسؤولون الرسميون. صحيفة «الوشنطن بوست» قالت انه يجب التعامل مع جريمة أبو غريب تماما مثلما يجب التعامل مع جرائم صدام حسين!

بوش اعتذر أكثر من مرة، وتأسف وامتعض ووعد بكشف الحساب، توني بلير اشمأز من افعال الجنود البريطانيين وقال «اتينا لنحمي حقوق الانسان لا لننتهكها. وما جرى لا يمكن قبوله ابدا» رايس ورامسفليد وكبار الجنرالات اعتذروا أيضا، وُجلب وزير دفاع أعظم دولة في العالم، وأمام الكاميرات، ليجلس على كرسي ساخن في الكونجرس الأمريكي يتلقى النقد والتوبيخ والمحاسبة، صحفٌ اخرى تطالب برأسه... متظاهرون يهتفون ضده قبل أن يؤدي قسمه أمام النواب... كل هذا وأكثر، جرى ليوصل رسالة حضارية مضمونها: ما تم في سجون العراق لا يمثلنا.

صحيح أن هناك من استغل الكارثة التي حلت بإدارة بوش الجمهورية من النواب الديموقراطيين، وهذا مفهوم في لغة السياسة، إلا أنه لا يلغي الصورة الكلية لمغزى هذا الاحتجاج الشعبي المتجاوز للمنافسات الحزبية.

بطبيعة الحال، لسنا من السذاجة أن نعتقد أن أمريكا مُختزلة في صورة دولة خيّرة أو قديسة توزع الكساء والطعام على فقراء العالم، فهناك أشرار في أمريكا أيضا، ويؤثرون في أحيان كثيرة، هناك «ضمير» ونظام يقفان سورا عاليا حتى لا تتحول أمريكا إلى دولة تنحر جوهرها وتنبذ كل قيمة أخلاقية، وما حصل من ضجة كبرى وتداعيات ضخمة، يمكن أن تطيح ببوش نفسه، دليل على مدى قوة هذا النظام «السور».

ربما كان ما جرى صدمة لا بد منها حتى تعود العافية للقيم الديموقراطية التي نشأت عليها أمريكا وتضمنتها وثيقة الاستقلال.. ربما تنسخ صور ابوغريب مشهدية أبراج مانهاتن المتهاوية غداة 11 سبتمبر صورة بصورة، ولا عودة من الغياب إلا بصدمة معاكسة.

ما حصل في ابوغريب كان يمكن له أن يمضي إلى صحراء النسيان، وكان يمكن لهذه الآهات التي انطلقت في أقبيته أن تتبخر في الفضاء الذي لا سقف له، كما ذابت آلاف القصص المأسوية في أقبية السجون العالمثالثية، ومنها عالمنا العربي الحزين، آهات مازالت تتصاعد إلى الآن في معتقلات أخرى، ولا مستمع لها ولا مجيب، كان يمكن أن يحدث ذلك لسجناء أبو غريب، كما حصل للمعذبين قبلهم في نفس هذا السجن أيام صدام حسين الرهيبة، لولا أن هناك «نظاما» يحمي من الانهيار الأخلاقي والسُعار السلطوي في الثقافة الغربية الحديثة، يجب أن نعترف بذلك حتى ولو كان قاسيا.

حتى في معتقل غوانتانامو، الذي نشأ في ظروف خاصة بعد صدمة 11 سبتمبر الفاصلة، هناك من يرفض ويطالب ويحقق في وضع معتقليه في الصحافة الأمريكية والغربية، ومن قبل بعض الأصوات المؤثرة في أمريكا والعالم الغربي.

تساءلتُ بعد السيل الهادر من الكتابات المهتاجة ضد أمريكا، الحضارة لا الإدارة، بعد نشر صور ابو غريب، هل كان المقصود فعلا الانتصاف للإنسان والغضب له، أم أن هناك من يتناول الأمر على طريقة «لا حبّاً في معاوية بل بغضا في علي»!

أتساءل فقط، مع أني اعرف أن كثيرا من هذه الكتابات ينبع من خلفية أخلاقية بحتة تستنكر، انطلاقا من هذه الخلفية، جريمة الجيش الامريكي في تعذيب السجناء العراقيين. بمعنى آخر: لماذا نفتقد هذه الحيوية والسخونة النقدية المستمرة والمتتابعة عند حصول مثل هذه الجرائم، وماهو أبشع منها، من ِقبلنا سواء على مستويات السلطة أم الجماعات، مع أن الألم واحد؟

هناك من أكد من المشغولين بإثبات دناءة القيم الأمريكية، أن ما تم في أبو غريب ليس جريمة قام بها من قام من العسكر، على مختلف رتبهم، بل أخذ يشدد على أن هذه الجريمة «ُممنهجة» وليست خارجة على النظام العام للقيم الأمريكية، وانه يجب علينا أن نتذكر مذابح الهنود الحمر، والحروب الأهلية الأمريكية، وفيتنام، واليابان. لكن، هل كنا سنقول نفس الشيء لو أن كتيبة ألمانية نفذت هذه الجريمة في سجون العراق، أخذا بالاعتبار أن ألمانيا الآن تحظى بموقف ودي في الشارع العربي مثل نظيرتها فرنسا؟

ولو قال غربيٌ، وهناك من لا يقصّر في ذلك من المستشرقين وتلاميذهم! إن قسوة العرب كما تجلّت في القاعدة، وطالبان قبل ذلك، إزاء الإنسان، ليست غريبة على نظام القيم الاخلاقية للثقافة العربية والاسلامية، مذكرا بحروب الفتنة الكبرى وقوافل الفلاسفة والمتكلمين والشعراء الذين أُعدموا، وسجون الحجاج بن يوسف المظلمة، وحفلات التقصيب والشواء والسمل والقتل صبرا على يد الأمويين والعباسيين، أو على يد الدولة الفاطمية وفرق الحشاشين الباطنية المتخصصة في عمليات الاغتيال الانتحارية، وغير ذلك مما يحفظه التاريخ، لو أنهم ذكّرونا بتلك الصفحات ولخّصوا كل حضارتنا وثقافتنا في هذه المظاهر، هل كنا سنقبل مثل هذه النظرة منهم ؟! أم أننا سنعتبرها، وُحقّ لنا، نظرة تنميطية استعلائية ظالمة ؟

إن الإيديولوجيين العرب، من إسلاميين وقوميين وغيرهم، غلبّوا غريزة الانتقام من أمريكا وكراهيتها على شعور الاصطفاف إلى جانب الإنسان المظلوم في هذه المأساة، الإنسان الذي تعب وشقي وُمرّغت كرامته، للأسف حتى معاركنا العادلة لا نحسن إدارتها.

ولا أدري، لمَ نختار الغلو والتعصب ونهدد بهما عند كل أزمة تمر، ويصبح خيار «الوسطية» عند البعض، مجرد ورقة خفيفة معلقة بغصن مبرود يوشك على الانقطاع عند كل هّبة أو نفحة ريح؟

وكأن الوسطية ِمنّة ُيمنّ بها ؟ فهذا احد «الوسطيين» المزعومين من الإسلاميين، يتوعد الأمريكان ويهجوهم بعد جريمة أبو غريب منذرا بحرب لا تبقي ولا تذر، ثم يوجه خطابه للداخل مؤكدا انه لا يضمن أن يبقى للوسطية بعد ذلك مجال!

أوَ كلما ارتكبت أمريكا خطيئة فقأنا عيوننا ؟ ورحنا نوغل أكثر فأكثر في بحيرة الأصولية المُرّة؟!

وما يعنينا، نحن العرب بما تفعله أمريكا، هل العقلانية والإصلاح الديني، وغيرهما، مدموغ بدمغة أمريكا؟ هل نعاقبها بتطرفنا أم نعاقب أنفسنا في حقيقة الحال؟!

يجب أن نفصل بين ما نريده نحن وما تريده أمريكا، لأن من يتضرر بشكل مباشر من ثقافة الانغلاق وانحباس الوضع العربي والإسلامي هو نحن، إن من يأكل العصيّ على ظهره ليس كمن يعدها!

أمريكا لديها مصالحها وأجندتها الخاصة، ولديها من آليات التصحيح التي تعدل انحرافاتها ما لديها، وهاهي تقدم لنا برهانا عمليا على ذلك في أزمة أبو غريب.

لكن ماذا عنا نحن ؟! هل نملك هذه الآليات ؟ بل هل نستطيع التعرف على موطن الانحراف عن الطريق .. بل هل نعرف الطريق أصلا ؟. ونكشف كم هي عميقة غربتنا الحضارية ؟ نحن نرفض عذاب أبو غريب ونرفض معه عجزنا.