التنبيه وقاية.. والعناد تورط

TT

باستثناء مجلس الوزراء السعودي الذي ندد في جلسته يوم الاثنين 3 مايو (ايار) الحالي، بالاثم المتعلق بالأسرى العراقيين الذين تعرضوا في سجن «أبو غريب» لأبشع تمثيل بالكرامة والقيم والعنفوان والبدن على أيدي بعض الشاذين والشاذات من قوات الاحتلال، فان صمتاً عربياً رسمياً مريباً قوبل به هذا الاثم. بل حتى «مجلس الحكم» لم يتجاوز موقفه لفظاً واجراءات الموقف الرسمي الاميركي الذي راوح بين الاستهجان وتصنيف الاثم المذكور على انه مقزز ويتوجب على «البنتاغون» وسيده دونالد رامسفيلد معاقبة مرتكبي ذلك الاثم الذي لم تر فيه الادارة البوشية سوى انه مخالفة من مئات تحدث في زمن الحروب.

ولا ندري ما الذي جعل الحكومات العربية من المحيط الى الخليج لا تتخذ موقفاً أو وقفة من هذا الاثم الذي يمكن في حال السكوت عنه ان يصبح وسيلة من الوسائل التي تعتمدها الادارة الاميركية مع الآخرين. فمسايرة الادارة في مخططها السياسي شيء والسكوت على اساليب التعامل شيء آخر. بل ان عدم السكوت، وهو هنا ليس على الاطلاق علامة الرضى، يفيد في تنبيه الصديق الاميركي اذا كان فعلاً يبغي هذه الصداقة، الى ان مثل هذا الاثم هو بمثل اي غارات جوية تدمِّر الحجر وتقتل البشر، وأن العربي يمكن ان يرتضي، كظماً للغيظ، عدواناً عليه او جريمة غير مبررة في حق وطنه، الاَّ ان من الصعب عليه ان يغفر اثماً اصابه في نفسه وفي بدنه وفي عرضه، وأن عدم المغفرة هذه يتوارثها الأبناء عن الآباء والأشقاء عن الأشقاء ولا يطويها النسيان.

وهذا التنديد، التنبيه من جانب الدول العربية التي تحاول الصهيونية والتجمعات المتصهينة اشغالها عن مسؤولياتها القومية، وبالذات في هذا «الزمن العربي المايل»، وذلك من خلال عمليات تفجير وترويع تبدو احياناً، كما لو أنها حجج استباقية لتحذيرات للرعايا الأجانب ولاغلاق متقطع للسفارات وللدوائر القنصلية ولالغاء رحلات طيران... ان التنديد ـ التنبيه يذكِّرنا بتنبيهات كثيرة سبقت الحرب على العراق ولم تقتصر على تصريحات وبيانات وانما كانت ايضاً بنداً في جدول اعمال المحادثات التي تتم اما في دواوين اهل الحكم واما في الاستراحات والمزارع واما عبر اسلاك المكالمات الهاتفية. وفي تلك التنبيهات كان الرأي السعودي ان خيار التسوية والحوار ربما يطول الاَّ انه في النهاية يحفظ الارواح وينقذ الاوطان من شرور الحروب. وعندما طرح ولي العهد الامير عبد الله بن عبد العزيز رؤيته التي انتهت مبادرة عربية بالاجماع فللتأكيد على ان العرب ومن دون استثناء لن يخرجوا على مبدأ نبذ الحروب والأخذ بمبدأ التسوية المتوازنة لكل القضايا العالقة. بل انه يجوز القول ان المبادرة كانت من اجل قطع الطريق على الخيار الحربي الذي اخذت به الادارة البوشية لاحقاً من دون ان تستوقفها التنبيهات التي اثبتت صوابيتها التطورات والدم الاميركي ـ العراقي المسفوك على تراب بلاد الرافدين، فضلاً عن تدمير الحجر والبشر على حد سواء، وتعميق مشاعر الكراهية كما لم ولن تتعمق على النحو التي هي عليه بعد السنة الاولى للاحتلال ثم بعد هتك اعراض وكرامات الرجال وبالصور في سجن «أبو غريب».

لقد جاءت «أبو غريب جيت» في وقت بلغ عدم الاصغاء الاميركي الى تنبيهات من لا يريدون للعلاقات العربية ـ الاميركية ان تنهار، حد الرد على التنبيهات بالأخطاء الأفظع وكأنما الادارة البوشية غافلة او منوَّمة او ان استخفافها بمشاعر الآخرين يجعلها ترى ان المسألة عبارة عن آمر ومأمور. الآمر يأمر والمأمور يطيع ومن دون اي قراءة في عمق القضايا. ولو ان هذه الادارة لم تكن على النحو الذي نشير اليه لما كانت اهدت ارييل شارون وعداً تلغي فيه حقوق شعب، ولما كانت سكتت على انتهاكات في حق الأسرى العراقيين وكأن ما يجري مجرد اجراءات على العالم ان يتفهمها بمثل ما يجب عليه ان يتفهم دواعي احتلالها للعراق، أو أنها «حالة دفاع مشروعة» عن النفس بمثل «حالات الدفاع عن النفس الشارونية». وهنا نجد انفسنا نقول انه عندما تجيز الادارة الاميركية للشارونيين ان يقترفوا ما يقترفونه من افعال، فمن الطبيعي ان لا تكون صاحبة بصيرة وهي تتبلغ تقارير حول افعال مماثلة وأحياناً أشد هولاً في حق أسرى عراقيين وفي السجن الذي كان أحرى بالحاكم الاميركي والآمر الناهي، بول بريمر، ان يبدأ مهمته في العراق بهدم «سجن أبو غريب»، وبذلك يولِّد في نفوس العراقيين شعوراً بالطمأنينة ويُقنع من هم مترددون في الترحيب بأحفاد «العم سام» ومحض ثقتهم لـ «الصديق الجديد» الذي جاءهم بادعاء تحريرهم وتحقيق نعمة الديمقراطية لهم، بضرورة اعادة النظر، لكن المستر بريمر عزز شأن «أبو غريب» وانهمك في الوقت نفسه بأمور اخرى من شأنها تأجيج مشاعر الحذر والكراهية لأميركا غير مستعد لسماع تحفظات تأتي من بعض اعضاء «مجلس الحكم»، ومن الحلقات التي يريد افرادها صادقين علاقة لبلدهم مع اميركا تعوِّض سنوات ربع قرن من القطيعة والتحديات، حتى ان تحفظات شكلية حول عَلَم البلاد الذي أحدث صدمة في النفوس من حيث المعنى والشكل، لم تلق الاهتمام الذي يجب ان تلقاه، ونتيجة لذلك قوبل هذا العَلَم عند الاعلان عنه باندفاع تلقائي نحو العَلَم القديم الذي كانوا يرون في الوانه مسحة يعربية وفي عبارة «الله اكبر» مسحة روحية، الى ان جاء التشكيل الجديد يلغي المسحتين دفعة واحدة، ويترك انطباعاً بأن التصميم ليس أمراً عفوياً ومجرد اجتهادات فنية، وبالذات ما يتعلق باللون الازرق غير المعتمد في كل الدول العربية عدا جمهورية الصومال الديمقراطية وجمهورية جيبوتي، وانما هنالك تخطيط سياسي لهذا الأمر ينبع من مشاعر ثأرية، ونكاد نقول انه تصميم لعَلَم ولاية اميركية سيتم اضافة نجمة جديدة لها على العلم الاميركي المرصع بـ 52 نجمة، تبدأ بنجمة واشنطن وتنتهي بنجمة هاييتي. ومع ان المصمم لهذا العَلَم عراقي جادرجي بامتياز، ومهندس له ابتكاراته المشهود لها، الاَّ أن عَلَم البلاد احاسيس في الدرجة الاولى وليس تشكيلاً هندسياً او لوحة تجريدية. وعندما اختار العرب اللون الاحمر والاخضر والابيض والاسود الواناً اساسية في أعلامهم، وكل دولة حسب استنساب الالوان المنسجمة مع خصوصيتها، فلأن لهذه الالوان الاربعة بعض المعاني حيث الاحمر الذي نلحظه في أعلام 17 دولة من اصل 22 دلالة على ان الدم واحد، والأخضر الذي نلحظه في أعلام 16 دولة من اصل 22، دلالة على ان الاسلام هو الرابط بينهم، والأبيض الذي نلحظه في أعلام 19 دولة من اصل 22 هو اللون الذي يرمز الى الأمة بعد أن تصفو القلوب من البغضاء والتخاصم والاحتراب، والأسود الذي نلحظه في أعلام 9 دول عربية من اصل 22 يعني ان حالة الحزن تصيب شقيقاً انما تصيب أشقاء له. وعندما لا نجد أثراً للأزرق في الأعلام العربية فلحساسية من الأزرق الاسرائيلي من جهة وبالذات لأنه يتكرس، لنصف القرن الآخر الذي انقضت منه بضع سنوات، كرمز للدولة التي تمتهن العدوان على العرب وعلى المقدسات الاسلامية والمسيحية ولذا فلا مجال للتطبيع بالحد الادنى ولا فرصة للتعايش والتعامل بالحد الأقصى. وهذا ما يسَّرت امكانية حدوثه رؤية ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز التي انتهت مبادرة وكان استنباطها في الأصل نوعاً من التنبيه الذي لم تستقبله الادارة البوشية بالمسؤولية المطلوب توافرها في قيادة بعيدة النظر ونتج عن ذلك المزيد من التخبط الذي تشكل «أبو غريب جيت» الحلقة الأكثر خطورة فيه، ذلك ان هنالك رؤوساً في بعض مفاصل الادارة البوشية اينعت وبات لا بد من ازاحتها لكي يسلم الرئيس بوش الابن، الذي بات الآن مسكوناً باحتمال ان يصيبه ما اصاب الجمهوري الأسبق ريتشارد نيكسون ومن قبل ان تكتمل المدة المتبقية على انتخابات الرئاسة حيث يتطلع بوش الابن الى التجديد ولاية ثانية.

ويبقى القول ونحن نتطرق الى محاسن التنبيه خصوصاً عندما يصدر عن اصدقاء، ومساوئ عدم الاصغاء على نحو ما فعلت الادارة البوشية عناداً او عدم قدرة على الأخذ بغير الرأي المفروض عليها بحكم مضمون الصفقة التي تمت خلال شهر تأجيل اعلان النتائج رسمياً في العام 2000، ثم اعادة فرز الاصوات في فلوريدا لترئيس الثنائي بوش الابن ـ تشيني، وليس الثنائي الفائز أصلاً آل غور ـ ليبرمان... يبقى القول ان «أبو غريب جيت» هي صيغة معدَّلة لـ «الطيور الأبابيل» التي ترمي المفترين بما يشبه الحجارة التي «من سجِّيل» لتجعل الهيبة كـ «عصف مأكول». ولا نستبعد أن تكون داخل مؤسسات الحكم في اميركا مَنْ رسم وخطط ونفَّذ «أبو غريب جيت» ليس حباً بالعراقيين وانما لتدارُك السمعة الاميركية التي تنحدر. كما لا نستبعد أن تكون استراتيجية هذا «اللوبي التصحيحي» قامت على اساس انه اذا كان التنبيه لا يجد المصغين اليه فان «اللوبي التصحيحي» كفيل بوضع حد لعناد الادارة الذي يقود الى التورط. وعند التأمل في خط سير جماعة هذا «اللوبي» وكيف ان كل الادوار مرسومة بدقة من افتعال الآثام.. الى تسريب الصور والمعلومات.. الى اطلاق صرخة الاحتجاج.. الى عريضة السفراء السابقين.. الى مساءلة صقر «البنتاغون» رامسفيلد واجباره على اعلان تحمُّله المسؤولية.. الى المطالبة باستقالته على الرغم من اعتذاره.. الى حلقات اخرى كثيرة سنسمع بها، يتأكد لنا ان المسألة ليست بالعفوية التي قد يظنها البعض.