علاقة العرب مع أميركا.. صورة مسرحية

TT

منذ عشر سنوات، بالتحديد في 1994/7/31، كان افتتاح عرض مسرحية «ماما أميركا» فكرة وإخراج وتمثيل الفنان محمد صبحي، واستمر العرض بإقبال جماهيري لمدة خمس سنوات مسدلا ستاره بالقاهرة عام 1998، وليطوف العرض في جولة ببعض الأقطار العربية.

في عيد الفطر الماضي قرر صبحي إعادة تقديم المسرحية من دون أية إضافات أو تغيير ليسجل أسبقيته في رؤية ما نراه اليوم بوضوح: اجتياح أميركي أخرق للأرض العربية والديار الإسلامية، تحت وابل من القصف الإعلامي الكثيف المنافي لأي منطق إلا منطق الذئب المتربص بالحمل، سيأكله سيأكله في كل الأحوال، حتي يصل الأمر برامسفيلد ليقول: المقاومة الأميركية بالعراق قد تصدت ببسالة للإرهاب وللعدوان العراقي!

استمر عرض ماما أميركا ثلاثة أشهر بالقاهرة، حتى منتصف مارس الفائت، لتبدأ جولته في أنحاء القطر المصري، وقد عاد أخيرا من مدينة أسيوط التي استقبلته استقبالا جياشا.

ولقد كنت من أشد المتحمسين لعرض ماما أميركا منذ افتتاحه عام 1994، شاهدته خمس مرات، وعندما قررت مشاهدته مرة أخرى هذا العام، كنت خائفة أن يخيب أملي ويتبدد حماسي، إذ تبدو الفنون باهتة تماما في زمن التهاب الأحداث، الغريب أن صدق العمل وإخلاصه تفاعل بسخونة مع أرض الواقع الملتهبة، وبدا متألقا تحت ضوء جديد، وإن لم يتجدد!

محمد صبحي فنان ذو موهبة أصيلة اهتم منذ بدايته بأن يطوع المسرح، بميراثه الغربي لإرادته وليس العكس. مشى مشوارا طويلا مع كاتب مسرحي، كان جريئا على التاريخ الإسلامي وحرماته. بينما نجد صبحي، الذي لا نستطيع أن ندعي له هوية فكرية إسلامية، لم يفقد أبدا فطرته السوية وحسه الأخلاقي بالصواب. وعلى ذلك كانت هناك دائما مناوأة بين الحس الفطري السوي، المتلاقي مع الإسلام، عند صبحي وصاحبه، ولم يكن من الممكن أن تؤدي، هذه المناوأة، إلى استمرارية بين الطرفين للتعاون الفني لاسيما أن محمد صبحي يلحظ المد الشعبي العائد إلى التمسك بالعقيدة شكلا وموضوعا ومن هؤلاء يتكون جمهوره المقبل عليه بشغف.

صبحي ليس الفنان الذي يجلس ليقرأ نصا يفكر فيه ليرى كيف يتكيف معه، إنه عقل ذكي مثقف مسؤول، يتابع مجريات الأحداث والأمور حوله: المحلية والعالمية، ويتساءل: أين أنا من كل هذا كمصري وعربي ومسلم. وهكذا تولدت لديه فكرة عرضه المسرحي ماما أميركا، وبالمشاركة مع الكاتب المسرحي مهدي يوسف أمكن لهذه الفكرة أن تنضج وتكتمل.

يقدم صبحي في مسرحيته رفضه الواضح لهيمنة نظام عالمي لقوة واحدة تنفرد بالدنيا وتتكرس للسطو والاغتصاب والإبادة وتعتمد محو الذاكرة لتزوير التاريخ وفقا لأهوائها ونزواتها ومصالحها. بوعي حاد يتمكن الفنان من رؤية الصورة بعد لملمة ملامحها المبعثرة، يجمع المتناثر ويرتب المختلط ويرمم الممزق فتتكامل الخطوط وتسفر عن الوجه الذي يريدون له أن يختبئ.

تتلخص الخطوط العريضة للعمل في أسرة تبدأ أسماء أبنائها بحرف العين، نفهم أنها الأسرة العربية، حين يموت الأب يجتمع الأبناء لفتح وصية توزيع التركة من أرض وعقار، ويتبين أن الأرض قد سرقتها عائلة الشفاط، وبيت السكني مرهون، ويكون على الابن عايش ـ الأكبر ودارس الحقوق ـ أن يقود السعي لاستعادة الأرض وفك الرهن. الإخوة متشاكسون وحين تتوالى المشاهد سريعة ومتهكمة نخرج بنتيجة أن هؤلاء الإخوة، لكي يظلوا إخوة، يجب ألا يتبادلوا الخطاب أو الرأي أو المشورة وربما يكون من الأفضل، لمنع الاحتكاك الذي يولد الشقاق، ألا يتبادلوا كذلك اللقاء أو الزيارة، فالمهم أن: نظل إخوة! مع هذه الجبهة المفككة للإخوة يظهر من عائلة الشفاط، التي سرقت واغتصبت أرض ودار الإخوة منذ زمن، المليارديرة الأميركية التي ترعى حقوق الحمير أميرة كامل الشفاط وابن عمها شومان الشفاط، وحين يتحسسان محاولات عايش لاسترجاع حقوقه وحقوق إخوته، يخططان لاحتوائه وإلغاء إرادته عن طريق حقنه بمادة تحوله حمارا ثم قردا ثم طفلا فاقدا ذاكرته وتاريخه ومكانته، عاجزا عن الإفصاح والتعبير والنطق السليم، فلا يعرف عائلة له سوى المليارديرة، التي تطلب منه أن يناديها: ماما أميرة كامل، فيردد ماما أميرة كا.... ماما أمير... يكا..... ماما أميركا! وعن طريق المصادفة المحضة يكتشف عايش المخطط، فيتفادى الحقن مع الإدعاء بأنه قد تم. ويؤدي مظاهر التخلف والنكوص المتوقعة من حالته ليكشف أوراق المؤامرة كلها، وبنهاية مطلوبة أو مرجوة أو مقترحة يهرب عايش من الفخ الذي نصبته له المليارديرة أميرة كامل الشفاط ـ وهي مطابقة لما بثته تلفزيونات العالم أخيرا لصورة الضابطة الأميركية التي أشرفت على انتهاك وامتهان وتعذيب السجناء في سجن أبوغريب العراقي ـ وابن عمها شومان الشفاط، الذي يوحي اسمه بشيمون أو شامير أو شارون ويتوضح بجلاء أنه يرمز إلى الكيان الصهيوني المحتل: إسرائيل المزعومة. حين يتهمون عايش بالإرهاب يقول متهكما، هل لابد أن أكون معتوها لكيلا اتهم بالارهاب، يعني «يابقى أهبل» ومعتوه أو أكون إرهابيا؟.

في هذا العرض تتقابل الرؤية الفكرية الإسلامية وتحليلاتها للمؤامرة العالمية على الوطن الإسلامي، وقلبه فلسطين، مع الفكرة الجوهرية لعرض مسرحية «ماما أميركا» وتحليله لما يدور على ساحتنا، بل إنني أرى أنه بقليل من التعديلات الطفيفة الشكلية في الإخراج، وفق المحللات الإسلامية ومحرماتها، يصبح هذا العرض المسرحي، بمنطلقاته وألمه واحتجاجه وندائه الواعي للعالم ليهب ناهضا ضد البغي والقهر والتسلط والجبروت الأميركي، نموذجا نفتخر به لمسرح إسلامي جميل.